كان محمد بشير (19) عاماً يستعد لإكمال إجراءات سفره إلى دولة تركيا لمواصلة دراسته الجامعية، لكن مدة صلاحية جوازه لا تتجاوز أربعة أشهر، وهي غير كافية للحصول على تأشيرة الدخول إلى البلاد، ما يستوجب الحصول على جواز سفر جديد.

قبل موعد بدء الدراسة بأربعة أشهر، تقدم بشير بطلب للحصول على جواز سفر،  في مكتب الجوازات بمدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، غربي السودان، إلا إن اندلاع الحرب قلبت حياة محمد وأسرته رأساً على عقب حيث فروا إلى مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور، وما بين المدينتين قرابة 195 كيلو متر.

عند وصوله إلى الفاشر لم تكن مكاتب الجوازات في المدينة تعمل، ولا خيار أمامه سوى السفر إلى مدينتي مدني وبورتسودان وسط البلاد وشرقها.

“أسرتي لا تستطيع توفير المال اللازم لدفعه في السفر والإقامة هناك”، هكذا يبدو الوضع بالنسبة لمحمد الذي لا يمانع في تجشم عناء السفر من غرب البلاد إلى شرقها بحثًا عن وثيقة للسفر، حتى المنصة الإلكترونية الحكومية المخصصة لذلك، صعب عليه الوصول إليها بسبب عدم توفر شبكة الإنترنت في الفاشر.

يقترب العام الدراسي من البداية، ومعه تتضاءل فرصة محمد في الالتحاق به، وما بينهما حلمه المعلّق بجواز سفر يحول دون أن يصبح مهندس برمجيات.

ويواجه آلاف الطلاب والمرضى صعوبة بالغة في مغادرة البلاد بسبب انتهاء صلاحية جوازات سفرهم الأمر الذي حال دون التحاقهم بالجامعات الخارجية التي تم قبولهم فيها، أو الحصول على فرص العلاج في دول أخرى في ظل توقف أكثر من 70 في المئة من الخدمات الصحية بسبب الحرب، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية.

معاناة لا تنتهي

صورة أخرى للمعاناة، عاشتها رانيا عبد الله آدم (33) عاماً التي تسبب عدم حصولها على الجواز في فصلها عن أسرتها المنقسمة ما بين ثلاث دول، مصر وليبيا والسودان.

لم يشفع لها هروبها رفقة أسرتها من نيالا إلى الفاشر في آب/ أغسطس 2023 لاستخراج جوازات سفر، بعد توقف عمل كافة المؤسسات الحكومية.

“أصبحنا عالقين في منتصف الطريق لا نستطيع مواصلة الرحلة إلى ليبيا، ولا نملك الأموال للوصول إلى بورتسودان لاستخراج الجوازات، كل ما نملكه ندخره للوصول إلى ليبيا للالتحاق بأخوتي هناك”.

تشتت أسر سودانية عدة نتيجة الحرب الدائرة

شتات أسري يعانيه السودانيون نتيجة الحرب – رسم: معزة صالح

وضع لا يختلف كثيرًا عند خديجة محمدين (40)  عاما التي فقدت كل أوراقها الرسمية، أثناء فرارها من معارك مدينة زالنجي إلى الفاشر.

“كنت أرغب  في مواصلة الرحلة إلى مصر، للانضمام إلى بعض أقربائي هناك، إلا إنني  بسبب عدم امتلاك وثيقة السفر انتظرت أربعة أشهر حتى تفتح مكاتب الجوازات، وعند إعلان التقدم للجوازات في الولايات  تفاجأت أن ذلك غير ممكن في مدن دارفور، وعلي السفر إلى ولاية الجزيرة.”

تضاعفت معاناة خديجة وأسرتها المكونة من 5 أفراد، فإضافة إلى تكاليف السفر وصلت رسوم الجواز الواحد إلى 150 ألف جنيه سوداني، بما يزيد عن 700 ألف جنيه سوداني، بعجز وحيرة، تقول خديجة: “نريد الخروج، ولا ندري ماذا نفعل”.

  عودة ثمنها باهظ 

في 30 آب/ أغسطس 2023 أعلنت وزارة الداخلية السودانية استئناف عمليات استخراج الجواز السوداني؛ لكن الرسوم الجديدة البالغة 150 ألف جنيه “نحو 250 دولارا”، أثارت غضباً كببراً في أوساط آلاف العالقين من المرضى والطلاب والمغتربين.

وفاجأت الرسوم الجديدة الشارع السوداني، إذ ارتفعت بأكثر من 500 في المئة مقارنة بما كانت عليه قبل توقف خدمة استخراج الجواز بعد اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع، حيث كانت التكلفة الكلية لا تتعدى 30 ألف جنيه.

وترتفع التكلفة الجديدة بأكثر من 400 في المائة عن المتوسط العالمي لرسوم استخراج الجواز والذي يتراوح بين 100 و160 دولار في معظم بلدان العالم.

وبررت وزارة الداخلية السودانية الارتفاع الكبير في سعر استخراج الجواز بارتفاع تكلفة الورق والطباعة؛ لكن مراقبين أشاروا إلى أن أعلى تكلفة لطباعة أجود أنواع الجوازات الإلكترونية لا تتعدى 40 دولاراً للكتيب الواحد؛ واعتبروا التكلفة مبالغ فيها ولا تتناسب مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها السودانيون في ظل الحرب الحالية.

واعتبر المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان الشريف علي الشريف الصعوبات المتزايدة التي يواجهها المواطنون في الحصول على الجوازات انتهاكاً واضحاً لحق الإنسان في حرية التنقل والحركة ولا يتوافق مع الدستور السوداني، لعام 2019، الذي ينص في مادته رقم 59  الفقرة (1) على أن “لكل مواطن الحق  في التنقل وحرية  اختيار مكان إقامته، إلا لأسباب تقتضيها الصحة والسلامة”، والفقرة (2) التي تنص على أن “لكل مواطن الحق في مغادرة البلاد وفقاً لما ينظمه القانون وله الحق في العودة”، وكذلك يتعارض مع القوانين والمعاهدات الدولية.

ويضيف الشريف: “تمثل حرية التنقل أحد أهم الحقوق التي يجب ضمانها لكل فرد، وفي ظل الأوضاع الحالية والصراعات المستمرة في السودان، يتزايد أهمية ضمان هذا الحق للمواطنين للبحث عن حياة أفضل وأكثر أمانًا.”

داعياً الحكومة السودانية إلى احترام التزاماتها وفقاً للقوانين المحلية والدولية، وتسهيل إجراءات الحصول على الجوازات وضمان حرية التنقل لجميع المواطنين دون تمييز.

ويحتل الجواز السوداني المرتبة 96 في القائمة السنوية المتخصصة في رصد قوة ومكانة جوازات السفر حول العالم  بحسب مؤشر هينلي آند بارتنرز، ويخول حامله دخول 44 دولة من دون تأشيرة، إلا أنه أصبح حلمًا لا يطاله العديد من السودانيين، الذين تحطمت آمالهم بالسفر إلى الخارج هرباًِ من جحيم الحرب أو للدارسة، أو مغادرة البلاد إلى غير رجعة، في ظل استمرار الحرب وتدهور الأوضاع الاقتصادية في كافة أنحاء البلاد.

تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.