تعرف بأنها حالة من الرفاه النفسي تمكّن الشخص من مواجهة ضغوطات الحياة، والعمل بشكل جيد، ومساعدة مجتمعه ومن حوله، وهي جزء لا يتجزأ من الصحة والرفاه اللذين يدعمان قدراتنا الفردية والجماعية على اتخاذ القرارات، وإقامة العلاقات وتشكيل العالم الذي نعيش فيه، إنها الصحة النفسية، الغائب والمفقود الذي نجهل أهميته، وعواقبه الوخيمة في مجتمعات الحرب التي بات السودان إحداها منذ منتصف نيسان/ أبريل 2023.

ليس سهلاً أن تعيش أجواء الحرب وتفاصيلها الصعبة من مواجهات مسلحة، واستخدام أنواع الأسلحة وما يترتب على ذلك من خوف وهلع، لكن “م.ع” ذو السبعة أعوام اضطر لأن يعيش تلك الأجواء، فلا مفر مما يجري، هذا خيار أسرته التي تقطن منطقة الجِنينة بولاية غرب دارفور، غربي السودان.

في السابع من تموز/ يوليو 2023 تعرض منزل الطفل “م.ع” لهجوم مسلح، وأصيب فيه والده بجروح بليغة بعد تعرضه لإطلاق نار مباشر أمام عينيه، وأسعف وسط حالة ذهول وهلع من الحاضرين، ليفارق الحياة في أحد مستشفيات المدينة التي ترك فيها طفله يتجشم معاناة ذكريات لحظاته الأخيرة بعد ثلاثة أشهر من المواجهات المسلحة، وما يتبعها من آثار نفسية معقدة.

صدمة ما حدث تغلغلت إلى كيان الطفل وبدأت تسيطر عليه وسط تحولات أظهرها في تصرفاته ومحاولته الانطواء وإبداء بعض المظاهر العنيفة في تعاملاته التي دفعت مختصين للتدخل من أجل مساعدته وإنقاذه للعودة إلى طفولته بما أمكن في بلد بات الدعم النفسي رفاهية لمن هم في أمس الحاجة إليه.

تحديات لا تحتمل

يواجه الطب النفسي في السودان منذ عام 2009 العديد من التحديات التي جعلت الذهاب إلى العلاج النفسي أمرًا شاقًا عند كثيرين، كعدم وجود كفاءات وخبرات في المجال، وقلة الأسرّة المتاحة للمرضى النفسيين في المستشفيات، إضافة إلى تمركز الخدمات النفسية في المدن الكبيرة كالخرطوم مع ندرتها في بقية الولايات.

وانعكست الأوضاع الراهنة على نفسية سكان الولايات التي تشهد مواجهات مسلحة منذ اندلاع الحرب، بما في ذلك المناطق التي تجدد فيها الصراع كدارفور وكادوقلي والدَمازِين، ما أدى إلى تعرض السكان لضغوطات نفسية، ساهمت في إصابة العديد منهم بأمراض وحالات إعاقة نفسية واجتماعية كالاكتئاب والتوتر والقلق وضعف الأداء وصلت حد خطر إيذاء النفس.

تسببت الحرب السودانية بمضاعفات وصلت حد الإعاقات النفسية لعدد من السكان

أمراض وإعاقات نفسية ومضاعفات عدة أصابت السودانيين – رسم: ميدو كاجونكا

ونشر موقع ساينس دايركت في تموز/ يوليو 2023 دراسة توصلت إلى إن 13% من طلاب المرحلة الثانوية بولاية الخرطوم يعانون من الاكتئاب أو القلق، وفي إحصائية أخرى ضمن الدراسة التي أجراها باحثون سودانيون وشملت شريحة أكبر من سكان العاصمة فإن 23% من النساء المشمولات يعانين من اضطرابات ما بعد الولادة، بينما 24% من مجمل المشمولين يعانون من الاكتئاب، وأكثر من 23% يعانون من القلق، و14% من الفوبيا الاجتماعية، ومثلهم من اضطراب ما بعد الصدمة. 

وتفشت الأمراض والاضطرابات النفسية في المجتمع السوداني مؤخرًا بنسبة عالية وبشكل مقلق مع قصور واضح في التدخلات الخاصة بذلك، ويرى المختصون النفسيون أن أسباب التفشي ترتبط بأسباب بيولوجية وأخرى جينية ونفسية واجتماعية، تجتمع كلها وينتج عنها المرض خصوصًا إذا كانت هناك بوادر اضطراب نفسي لدى الشخص.

وقال اختصاصي الأمراض النفسية والمدير السابق لمستشفى “التجاني الماحي” للأمراض النفسية والعصبية الشفيع عبدالله: “تفشت الأمراض والاضطرابات النفسية في المجتمع السوداني في الفترة الأخيرة بتردد عالٍ ومقلق، مع قصور واضح في المستلزمات العلاجية”، وأوضح أن “المستشفيات الحكومية العامة كلها مركزة في العاصمة الخرطوم، منها مستشفيان مدنيان، وآخران عسكريان، وهناك بعض المستشفيات الخاصة لكنها قليلة”، وعن أسباب تفشي هذه الحالات بيّن: أن “منها أسبابًا بيولوجية، وأخرى جينية ونفسية واجتماعية، وتجتمع كلها فتؤدي إلى حالة المرض، خصوصًا إذا كانت لدى الشخص قابلية لأن يكون عرضة للاضطراب النفسي”.

وصمة عار

يواجه المرضى النفسيون صعوبات وتحديات اجتماعية، فالمصابون أو من يذهبون إلى أطباء نفسيين يتعامل معهم المجتمع وفقًا للعادات والتقاليد كوصمة عار، وهو ما أفرز خوفًا شديدًا من المجتمع الذي ينظر للمرضى النفسيين باستعطاف مبالغ فيه من باب حاجتهم للمساعدة، تصل الذهنيات المرسومة سلفًا حد اعتبار المريض النفسي مجنونًا، وقد تذهب به أسرته إلى شيخ دين ليعالجه على طريقته.

كما يلعب مستوى التعليم وغياب التوعية والتثقيف بأهمية الصحة النفسية دورًا في زيادة معدل المرضى النفسيين وتفاقم من سوء وضعهم، إضافة إلى شيوع هذه الحالات في المناطق المفتوحة بالبلاد والتي تقع على حدود دول أخرى مجاورة هي الأخرى تشهد حروبًا ونزاعات من وقت لآخر، وتفتح المجال أمام دخول بعض المحظورات التي يؤدي تناولها إلى مضاعفات نفسية قد تؤدي للانتحار.

الحاجة لبواعث أمل

تحتاج مجتمعات الحرب إلى عدد من البواعث للأمل وبما يساهم في إعادة عملية البناء الذاتي تعزيزًا للصحة النفسية والشعور بالأهمية الاجتماعية عبر المشاركة في الأنشطة ووجود علاقات اجتماعية إيجابية قوية، والمجتمع السوداني ليس حديث عهد بالحرب، لكن مناطق تعد جديدة في دائرة الحرب السودانية الحاصلة، إذ لم يسبق للجيل السوداني الحالي أن عايش حربًا في الخرطوم بولاياتها الثلاث، وباعتبارها عاصمة للبلاد.

وترمي التدخلات في مجال تعزيز الصحة النفسية والوقاية من الاضطرابات النفسية إلى تحديد المحددات الفردية والاجتماعية والهيكلية للصحة النفسية، ثم التدخل من أجل الحد من المخاطر وبناء القدرة على الصمود وتهيئة بيئات داعمة للصحة النفسية، ويمكن تصميم التدخلات خصيصاً للأفراد أو فئات محددة أو للفئات السكانية بأسرها.

ويعد تعزيز وحماية الصحة النفسية في مناطق النزاعات أولوية لا تحظى باهتمام من قبل الفاعلين المحليين أو حتى على مستوى التدخلات الطارئة التي تعطي الغذاء والدواء والمأوى أولوية ضرورية، بينما تتعاظم الاختلالات النفسية وتتسع رقعتها بشكل غير مباشر حتى تصل حد الانفجار وتشمل آثارها كل المجتمع من خلال زيادة معدل الجرائم الاجتماعية والأعباء الأسرية ومشاكل أخرى جذورها مرتبطة بالمضاعفات النفسية خلال الحرب.

تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.