غيرت حرب منتصف نيسان/ أبريل 2023 العديد من أوجه الحياة في السودان، وبدت في بعض جوانبها إجبارًا للناس للعودة إلى القديم بالهجرة العكسية من العاصمة إلى الولايات الأخرى، إلى جانب ذلك أعادت الحرب شيئًا آخر، عودة ما كان لها أن تحدث لولا أن الناس أجبروا عليها، عندما لجأوا إلى استخدام بعض طرق السفر التاريخية التي أهمل استخدامها بعد تشييد شبكات الطرق المسفلتة الرابطة بين مدن العاصمة الخرطوم الثلاث (بحري، أم درمان والخرطوم).

ارتبط استخدام العديد من طرق السفر المنسية في التجارة منذ قديم الزمان، ولعل أشهر تلك الطرق هو درب الأربعين الذي كان يستخدم في التجارة بين مناطق كردفان ودارفور ومصر وسمي بهذا الاسم نظراً لاستغراق رحلة القوافل فيه لأربعين يوماً.

تراجع استخدام تلك الطرق السفرية إما بسبب استخدام خيارات كالنقل الجوي أو النهري أو السكك الحديدية أو بسبب تفضيل استخدام الطرق البرية المعبدة.

يعد طريق الصادرات (أم درمان- بارا) أحدث الطرق القديمة التي تمت سفلتتها في العام 2019 إذ يبلغ طوله 342 كيلومتر، ويربط العاصمة بمناطق الإنتاج في كل من كُردفان ودارفور وسط وغربي البلاد.

تحت الإكراه!

تسبب جنوح مجموعات تابعة لقوات الدعم السريع إلى الاستيلاء على الممتلكات الخاصة بالمواطنين، بالتفكير في طرق تتيح إخراج المقتنيات الثمينة من أموال، وذهب، وسيارات إلى مناطق آمنة خارج سيطرة الدعم السريع، ويتطلب ذلك تجنب نقاط التفتيش في الطرق المعبدة المتجهة إلى خارج الخرطوم، وهو ما جعل البعض يهتدي لإمكانية استخدام الطرق القديمة للوصول إما لشَنْدِي وعَطْبَرَة بولاية نهر النيل، أو لمدني بولاية الجزيرة، فيما احتاج آخرون للعودة إلى الخرطوم لترتيب أوضاعهم وتأمين ممتلكاتهم.

احتاج أحمد إلى ثمان ساعات كاملة بدلًا من ثلاث ساعات كان سيستغرقها للوصول إلى منزله في منطقة السلَمة بالكدرو شمالي بحري، استوجبت عودته إلى المنزل الذي غادره في الشهر الأول للحرب أن يغامر من مدينة عَطْبَرَة إلى شندي حيث تتوفر حافلات ركاب تدخل إلى مدينة بحري من خلال طريق يتجه بهم شرقاً عبر منطقة البطانة في شكل نصف دورة دائرية عوضاً عن المسار المستقيم بالتوجه جنوباً، “توقعت أن تنتهي الحرب في غضون أيام، وغامرت بالعودة من أجل وثائق مهمة، ولكن عبر طريق قديم”.

عند وصوله إلى منطقة السامراب، جنوبي بحري، اتفق أحمد مع سائق دراجة نارية ليوصله إلى المنزل، اختار السائق طريقًا غير مأهول؛ لتجنب نقاط تفتيش طرفي الحرب، يتذكر أحمد مشواره الذي استهلكه السائق بحديثه عن اشتباك مسلح وقع في السامراب قبل وصوله بساعتين، “كانت لحظات عصيبة على المنطقة، هكذا فهمت من كلامه وأنا في الطريق إلى المنزل الذي قد لا يكتب لي وصوله”. 

يواصل أحمد سرد حكايته قائلًا: بعد وصولي إلى المنزل نصحني بعض جيراني الذين كانوا لا يزالون في الحي بضرورة تجنب السفر عبر الطريق المعبد والعودة بذات الطريق حفاظاً على أموالي وهاتفي المحمول”، وهو ما فعله، ليس استجابة لنصيحتهم وحسب بل تقديرًا لمجازفته التي قد تكلفه حياته، كما يقول.

فرص جديدة

ساعدت طرق السفر المنسية المدنيين بالخرطوم في إخراج سياراتهم، وممتلكاتهم والحيلولة دون تعرضها للسرقة، فمن بحري تتوجه السيارات عبر طرق منطقة البطانة لتصل إلى مدينتي شندي أو مدني، أما الموجودون في أم درمان فإنهم تحركوا في رحلة طويلة شمالاً عبر الطريق الغربي المعبد نحو المَتَمَة ثم يقطعون الجسر لعبور نهر النيل شرقاً صوب شندي ومنها التوجه عبر طريق البطانة نحو مدني أو كَسَلا أو استكمال الرحلة شمالا صوب عطبرة أو بورتسودان أو الولاية الشمالية، هذه الرحلة  كانت في السابق تستغرق ساعات لكنها باتت تستغرق في حدها الأدنى 18 ساعة وربما تمتد لأيام.

خطوط مواصلات جديدة نشأت من عطبرة لمدني مروراً بشندي ثم البطانة وهو ما خلق سوق عمل جديد وأوجد خيار تنقل للمواطنين، لكن أبرز المستفيدين من الخطوط المستحدثة أشخاص أطلق عليهم (خبراء الطريق) حيث تتمثل مهمتهم في إرشاد سائقي السيارات الخاصة الذين يستخدمون الطريق لأول مرة وإيصالهم لوجهتهم مقابل أجر مالي حسب الاتفاق والمنطقة التي يريدونها لضمان عدم الضياع.

العوض أحد أبناء منطقة البطانة وخبير في طرقها ودروبها الصحراوية التي يحفظها عن ظهر قلب تجاه شندي أو مدني أو كسلا من شرق بحري ويقول بشكل فيه قدر من الزهو: “لدي مقدرة لمعرفة الطرق الأفضل، والمسارات حسب نوع السيارة سواء كانت صغيرة ماركة هونداي i10، أو دفع رباعي، وأياً كان نوع العربة لقد أوصلتهم جميعاً دون مشاكل وفي زمن قياسي”.

يقول العوض: “إن لجوء قوات الدعم السريع لنزع السيارات من أصحابها جعل كثيرين يفكرون في المجازفة لإخراجها وهذا مثل لهم مصدر رزق جديد”، ويصل ما يتقاضونه على السيارة الواحدة إلى 150 ألف جنيه سوداني – ما يعادل حينها 300 دولار أمريكي – للسيارات المتوجهة لشندي أو مدني من شرق بحري، وفي حال وجود سيارات كثيرة فإنهم يقومون بتفويجها بسعر مخفض يصل إلى 250 أو 200 دولار أمريكي بحسب العدد وظروف من تقدم لهم الخدمة، والكلام هنا للعوض.

اتفق كل من أحمد والعوض لاحقاً في أن عدم شمول تلك الطرق العابرة للبطانة بمشاريع السفلتة عاد بالفائدة على المواطنين بعد اندلاع الحرب لكونها منحت بديلاً مكنهم من تجاوز المخاطر والمصاعب الموجودة في الطرق المعبدة، إلا أن العوض نظر للأمر من باب الاحتياج الطارئ الذي أجبر الناس إلى العودة إلى هذه الطرق، وبرأيه، فإنها “ليست طرقاً جديدة، ولكنها قديمة ربما طواها النسيان وباتت شحيحة الاستخدام ولكن حينما تقتضي الضرورة سيتم استخدامها مجدداً لتسهل الوصول عبر دروب الصحراء والرمال إلى المكان المطلوب، وهو ما حدث”. 

وأظهر آخر تحديث صادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بأن حوالي 5.5 مليون شخص فروا من منازلهم منذ بداية الحرب منتصف نيسان/ أبريل 2023، يقدر حوالي 3 مليون شخص منهم من ولاية الخرطوم، توزع معظمهم في ولاية نهر النيل، تليها ولايتي جنوب وشرق دارفور، ثم ولايات الجزيرة، الشمالية، وشرق دارفور.

تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.