أكثر من ثمانية أشهر ومازال رصاص الحرب يقتل المواطنين السودانيين، ويشرد الآلاف منهم إلى مناطق غير مألوفة ومجتمعات غريبة عنهم مع رحلة نزوح مستمرة، بانتظار أن تضع الحرب أوزارها.

ورغم قبح الحرب وآثارها السلبية إلا إن الإنسان السوداني استطاع خلق نوع من التعايش السلمي في ولايات السودان الآمنة التي نزح إليها سكان العاصمة منذ اندلاع القتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، والشاهد على ذلك المبادرات الخيرية التي قامت بها بعض المناطق خصوصاً بعد انتقال الصراع في كانون الأول ديسمبر 2023 إلى “ود مدني” عاصمة ولاية الجزيرة.

فر ما يصل إلى قرابة 300 ألف شخص من مدينة ود مدني، ثاني أكبر مدينة في السودان، في موجة جديدة من النزوح، بعد وصول القتال إلى المنطقة، وفقاً للتقديرات الأولية من مصفوفة تتبع النزوح التابعة للمنظمة الدولية للهجرة.

ولجأ أكثر من نصف مليون “رجل وامرأة وطفل” إلى ولاية الجزيرة منذ بداية الأزمة في نيسان أبريل الماضي وبدأ الآلاف في التحرك والنزوح مرة أخرى إلى ولايات آمنة مثل ولاية “سنار والقضارف وكسلا” والعديد منهم في حالة من الذعر؛ فارين من القتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع الذي اندلع في مدينة “ود مدني” منتصف كانون الأول ديسمبر 2023.

مصير مجهول

صفاء محمد سيدة سودانية تبلغ من العمر (27) عاماً تعمل معلمة بإحدى المدارس السودانية تقطن مدينة شرق النيل بولاية الخرطوم، متزوجة وأم لطفل وحامل في شهرها التاسع، نزحت من الخرطوم إلى ولاية الجزيرة واستقرت فيها ستة أشهر حتى انتقل القتال إلى مدني فشدت الرحال مرة أخرى، ولكن هذه المرة لطريق مجهول تبحث من خلاله عن حياة لطفليها، هكذا تحكي تفاصيل رحلة نزوحها التي لم تنتهِ.

لم تتوقع صفاء أن تصبح مدينة مدني نسخة ثانية من العاصمة الخرطوم وتتحول مقراً للعمليات العسكرية كما حدث في منتصف نيسان أبريل 2023، وأنها ستنزح مرة أخرى إلى مكان جديد بمصير مجهول النهاية ومفتوح على كافة الاحتمالات.

منذ نزوحها من الخرطوم إلى ود مدني بولاية الجزيرة قبل خمسة أشهر، وبعد تحول الصراع إلى ولاية الجزيرة، تبدأ صفاء وزوجها وأختها وطفلها رحلة نزوح جديدة، رحلة قضت منها أياماً في الشارع رغم حملها في الشهر التاسع، وهي تبحث عن مكان آمن تضمن بها حياة هادئة لها ولأسرتها، لتصل إلى مدينة القضارف، وتستقر فيها، على الرغم من أنها في دائرة المدن المهددة باشتعال الحرب فيها أسوة بالمدن التي سبقتها.

قضت صفاء ثلاث ليالٍ في قرية الحاج عبد الله ليلة اندلاع القتال في مدينة مدني مع أناس لا تعرفهم، ولم يسبق لها أن التقت بهم، لكنها وجدت منهم الترحيب، وحسن الاستقبال، هي وأسرتها حتى أنهم قاموا بإصلاح سيارتهم التي توقفت بعد مشوار طويل وشاق، كما تقول.

ثلاثة أيام عاشتها تلك الأسرة في مناطق جديدة عليهم بعيداً عن الخوف والرعب، شعرت فيها بالراحة والهدوء وروح التعاون والتعايش بين السودانيين رغم قبح الحرب التي طال أمدها، وهو ما يظهر ملامح التعايش السلمي في السودان الذي يعتبر من أكثر شعوب العالم تعدداً من حيث القبائل والثقافات مع تنوع العادات والتقاليد، هذا ما تقوله صفاء، وتضيف: “من خلال هذه الأزمة التي تمر بها البلاد بانت ملامحهم الطيبة التي تعد من ميزات الحرب وستخلد في ذكرياتها وأسرتها إلى الأبد”.

رحلة بلا أفق

لم تنتهِ رحلة البحث عن الحياة بعيداً عن الموت في قرية “الحاج عبد الله” فـمشوار النزوح مازال مستمراً دون وجهة أخيرة، ففي خلال أيام أصبحت مدينة الحاج عبد الله مهددة هي الأخرى بموجة القتال التي انتقلت إليها فوراً بعد “ود مدني”، وعادت كرة النزوح للأسر المشردة مجدداً، وهذه المرة كانت الوجهة إلى ولاية سنار مروراً بقرية ود الحداد وفارس ودون أن تعرف صفاء أين وكيف ستلد وما هو مصير طفلها القادم الذي بات حائراً قبل أن يصل إلى الدنيا.

تقول صفاء إنها توجهت هي وأسرتها إلى مدينة سنار بنية الاستقرار فيها، وقبل أن يهنأ لهم بال فجأة انتقل الصراع إلى حدودها وعلى بعد 15 كيلو متر منها، لتضطر للنزوح مجدداً عبر قرى ومحليات ولاية سنار قبل وصولها لمحطتها الأخيرة في القضارف.

حتى القضارف تبدو محطة مؤقتة لهذه الأسرة التي عانت ويلات الحرب بكل آهاتها ومعاناتها لأكثر من سبعة أشهر وهي تبحث عن أبسط مقومات الحياة من مسكن وملبس ومأكل ومشرب، هكذا كمتلازمة من مدينة إلى أخرى وتختم حديثها: “سأظل أبحث عن حياة حتى أجدها”.

صفاء وأسرتها نموذج واحد من آلاف الأسر السودانية التي عانت مرارة النزوح والتشرد والنهب والقتل والاغتصاب بسبب استمرار الحرب بين طرفي النزاع في السودان، علماً بأن هذه الحرب تدخل شهرها التاسع دون وجود مؤشرات تدل على انتهائها في القريب العاجل وهذا يعني استمرار معاناة المواطن السوداني ولا نهاية تلوح في الأفق.

أسوأ الأزمات

تبقى أزمة النزوح إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية التي لازمت السودان عبر تاريخه، ليس فقط من حيث الانتهاكات والتبعات التي نالت من النازحين خلال نزوحهم، ولكن الوضع ذاته ألقى بظلاله على ملايين النازحين الذين باتوا أمام حياة جديدة لم تكن في حسبانه.

أزمة يعبر عنها الصحفي والباحث الاجتماعي عوض جاد السيد بقوله: “أزمة النزوح في السودان حالياً هي أكبر أزمة نزوح حدثت في العالم بشهادة الأمم المتحدة، لذلك قد تكون آثارها أكبر وأكثر اختلافاً من تأثير الأزمات التي مرت بالسودان سابقاً”.

وربط السيد ما قاله بالأزمة وآثارها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بسبب تكدس النازحين في مناطق ضيقة ومحدودة الموارد، وينتج من هذا التكدس ظهور سلوكيات اجتماعية غير مألوفة، و تفلتات أمنية بسبب عدم القدرة على حماية كل النازحين، فضلاً عن الأثر النفسي الذي ينعكس على النازحين وينتقل للمجتمعات المستضيفة أيضاً، حسب قوله.

ووفقاً للسيد فإن معظم المجتمعات المتضررة حالياً لا تجد الدعم من المنظمات الدولية أو المحلية بل تعتمد كلياً على الجهود الذاتية والمبادرات لتوفير الحد الأدنى من الجانب الغذائي والخدمات الصحية.

ولم ينسَ السيد في معرض حديثه التطرق إلى أن الأزمة خطيرة ومتعددة الأبعاد وتحتاج إلى تدخلات ومعالجات مبكرة من الحكومة والمنظمات ليتم تدارك الآثار بأسرع وقت وخصوصاً المشاكل المتعلقة بالأطفال من تعليم وصحة وغذاء.

ــــــ ـــ

تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.