لم يحظ السودان في تاريخه الحديث بدستور دائم يكفل بناء مؤسسات حكم قوية وراسخة تضمن الحقوق والحريات وتساهم في الاستقرار السياسي حيث ابتدأت الدساتير منذ قبل الاستقلال بوثيقة الحكم الذاتي 1953، وتلاها الدستور المؤقت لعام 1956، والعام 1964 ثم دستور 1973 و1998 والدستور الانتقالي 2005 بين الحركة الشعبية لتحرير السودان وحكومة السودان المتمثلة في المؤتمر الوطني، وأخيراً الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية 2019.

ظهرت فكرة المحكمة الدستورية في السودان في مشروع دستور 1968 الذي لم يرَ النور بسبب انقلاب 1969، ودستور 1998 الذي أصدرته الجبهة الإسلامية بعد استيلاءها على السلطة في العام 1989 وأخيراً في دستور العام 2005 الانتقالي على الرغم من أن التجربة السودانية عمدت خلال مسيرتها على إرساء نظام قضائي موحد تحتل فيه المحكمة العليا أعلى قمة، وظلت الدساتير المتعاقبة تعهد لها سلطة مراقبة الدستورية، واستطاعت أن ترسي العديد من المبادئ الدستورية وظلت سوابقها في هذا الإطار هادياً ودليلاً للقضاء الدستوري في السودان إلى يومنا هذا.

دور بلا تفعيل

للمحكمة الدستورية دور مهم في حماية الحريات والحقوق وذلك من الاختصاصات المختلفة التي منحتها لها الدساتير حماية للدستور من العبث، والفصل في الطعون الدستورية في القوانين، والطعن في أعمال رئيس الجمهورية أو الولاة أو الوزراء.

اتخذت كافة الدساتير السودانية منذ ميلادها في العام 1956 موقفاً إيجابياً من الرقابة القضائية على دستورية القوانين القائمة، وكانت تلغي من القوانين ما يتعارض مع أحكام الدستور فنظرية الفصل بين السلطات والتي تقوم بشكل أساسي على عدم تدخل السلطة القضائية بأي طريقة في شؤون السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية كما في دستور 2005 الانتقالي الذي نص على استقلالية المحكمة الدستورية بشكل واضح في الفقرة الثانية من المادة (119) وذلك بأن جعل المحكمة الدستورية مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية وحتى القضائية.

ظلت إجراءات تكوين المحكمة الدستورية على الورق بعد توقيع الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية عام 2019 والتي تمتد لتسعة وثلاثين شهرا، حيث لم يتم تكوين مجلس القضاء العالي المنصوص عليه في الوثيقة والذي بدوره يختار أعضاء ورئيس المحكمة الدستورية ورئيس القضاة ونوابه.

كما لم يتم إنشاء المجلس التشريعي خلال ثلاثة شهور من تاريخ توقيع الوثيقة كما هو منصوص عليه، وكانت تلك حلقة الضعف في الفترة الانتقالية حيث ظلت كثير من الأحكام والطعون معلقة في ظل انتهاك للحقوق والحريات، وعدم الفصل بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية، وفقدان للرقابة عليها بالإضافة إلى العبث بدستور الفترة الانتقالية بإجراء تعديل غير دستوري بجعل اتفاقية جوبا الموقعة في تشرين الأول أكتوبر2020 تسود على الوثيقة الدستورية.

نصت الوثيقة الدستورية للعام 2019 أن المجلس التشريعي هو الوحيد الذي له الحق في إجراء أي تعديل على الوثيقة.

وضع توصّفه مي طارق المستشارة لدى عدد من المنظمات الدولية، قائلة: “الإشكال الرئيسي في السودان أن السودانيين لا يعرفون شيئاً عن دستورهم الحاكم، وحتى الجهات الحكومية لا تطبقه، والقليل منا يعرف أهمية أن تكون هناك محكمة دستورية، كما أننا دائماً نسعى إلى شخصنة إشكالاتنا السياسية، والثلاثين عاماً من نظام الجبهة الإسلامية لم تبقِ على أحد من الشخصيات الوطنية النزيهة”.

غياب له أثر

تعطلت المحكمة الدستورية لأكثر من أربعة أعوام حتى الآن، ونصت الوثيقة الدستورية التي تحكم فترة الانتقال في البلاد على تشكيل المحكمة من قبل مجلس القضاء العالي؛ الذي لم تتم إجازة قانونه هو الآخر من قبل مجلسي السيادة والوزراء حتى انقلاب 25 تشرين الأول أكتوبر 2021، حيث يفوض هذا القانون مجلس القضاء العالي بصلاحيات تكوين المحكمة الدستورية.

شكل غياب المحكمة الدستورية عموماً وفي الفترات الانتقالية خصوصاً مشكلة في ضمان العدالة والواجبات والحقوق المدنية حيث كانت هناك قضايا في انتظار البت فيها من قبل المحكمة الدستورية خصوصاً المتعلقة بالخروقات الدستورية للوثيقة نفسها حيث يعتبر الكثير من الخبراء القانونين أنه تم خرق الوثيقة بالتعديل الذي تم بعد اتفاقية سلام جوبا في تشرين الأول أكتوبر 2020، حيث ذكرت أنه في حال التعارض بينها وبين الوثيقة الدستورية يتم الحل “بما يتوافق مع نصوص اتفاق جوبا لسلام السودان”.

دستورياً، يعد هذا غير صحيح فالدستور هو أعلى وثيقة، ولا تسود عليه وثيقة أخرى، كما تم إضافة بند جديد إلى الوثيقة الدستورية البند (80) الذي ينص على تكوين “مجلس شركاء” من كل من قوى الحرية والتغيير والمكون العسكري وحركات الكفاح المسلح الموقعة على اتفاق سلام جوبا والحكومة التنفيذية مما تسبب في توترات سياسية في الفترة الانتقالية، ورفع دعاوى من المجتمع المدني ضد هذا الخرق.

العديد من أحكام الإعدام الخاصة بالانتهاكات التي تمت إبان ثورة ديسمبر 2018 كانت في انتظار الفصل فيها من قبل المحكمة الدستورية مما تسبب في توتر العلاقة بين أسر الضحايا والحكومة الانتقالية والحاضنة السياسية للحكومة “قوى الحرية والتغيير”، حيث اتهمت أسر الضحايا الحكومة الانتقالية بالبطء في إتمام ملف العدالة، وعدم الجدية في فتح ملف مجزرة القيادة العامة التي حدثت أمام مباني القوات المسلحة بالخرطوم في الثالث من حزيران يونيو 2019 بعد الاعتصام الذي أدى إلى إسقاط نظام البشير.

“ما حدث في الفترة الانتقالية 2019 كان خطأ كبيراً حيث لم تكوّن المحكمة الدستورية أو مجلس القضاء العالي لأسباب متعلقة بمؤسسات الحكومة وتتحمل الحكومة الانتقالية مسؤولية ذلك” هذا ما قاله المحامي عبدالباسط الحاج الذي يرى بأن وجود المحكمة الدستورية مهم في النظام السوداني، ويجب حدوث إصلاح في المنظومة القضائية ومنظومة النيابة وذلك – وفقًا للحاج – يتأتى بطريقتين أولاً تعيين القُضاة ومراجعة كل سجلاتهم والتأكد من عدم تسيسهم، والثانية إصلاح القوانين نفسها بحيث تكون متوافقة مع المواثيق الدولية، ودون تأثير من الجهاز التنفيذي أو التشريعي، وذلك يجعل من المحكمة العليا والمحكمة الدستورية قادرتين على وضع حد لتغول السلطة التنفيذية والتصدي للقرارات غير الدستورية.

أزمة ثقة

ظلت سكرتارية المحكمة الدستورية تتقبل دعاوى أفتى بعض القانونيين بتقبلها في ظل عدم وجود المحكمة والاكتفاء بسكرتاريتها التي تكتفي بالأرشفة دون انعقاد لجلسات محاكمة وفصل، وتمثلت تلك الدعاوى في الجرائم الخاصة بالخيانة العظمى، والجرائم التي تمس الشرف والأمانة وموجهة ضد أعضاء مجلس السيادة أو القضاة أو الوزراء.

ظهر ذلك في قضية التطبيع مع إسرائيل حيث اتخذ رئيس مجلس السيادة القرار دون الرجوع للمجلس والسلطة التنفيذية والهيئة التشريعية في مخالفة واضحة للوثيقة الدستورية التي تنص على اختصاصات مجلس السيادة الشرفي، إضافة إلى القرارات التي اتخذها رئيس مجلس السيادة في الخامس والعشرين من تشرين الأول أكتوبر 2021 القاضية بحل الشراكة بين القوى المدنية الموقعة على الوثيقة الدستورية والمكون العسكري واعتبرها إجراءات تصحيحية وليست انقلاباً على السلطة حيث كان من الممكن تفادي كل ذلك أو التقليل من ضرره بالاحتكام إلى المحكمة الدستورية لفض النزاع بين الطرفين، وهنا تقول مي طارق: “كان من الأهمية إجراء عملية إصلاح للأجهزة الحكومية ككل كما أن للمجتمع المدني دوراً في الضغط المستمر على القيادات السياسية لتكوين المحكمة الدستورية وتصميم حملات توعية مكثفة للمواطنين بأهمية المحكمة ودورها حتى يضغطوا على الحكومة الانتقالية لتكوينها”.

وجود جميع هياكل الحكم في الفترة الانتقالية من هيئة تشريعية ومفوضيات مهم في عملية التحول الديمقراطي واكتساب الشرعية، ومن المهم ضمان وجود المحكمة الدستورية التي هي محرك الانتقال السياسي، وغيابها وتهميش دورها يصعب الوصول إلى الاستقرار السياسي لذا يجب أن يكون لدينا سند للمحكمة الدستورية ولكي يكون هناك هذا السند فمن الأهمية وضع وثيقة دستورية جديدة تحكم الفترة الانتقالية، وتكون بنودها واضحة وعليها توافق، كما يمكن البدء في إقامة المؤتمر الدستوري الجامع، وصناعة الدستور الدائم فور تكوين الحكومة الانتقالية بحيث يحدد هذا الدستور نطاق الاختصاص للمحكمة الدستورية، وكيفية تكوينها على أن تكون المحكمة الدستورية مستقلة ولها أولوية التشكيل كجزء من بناء الدولة وتتمتع بسلطة نافذة وأحكام ملزمة لجميع السلطات.

ويقترح البعض تكوين المحكمة الدستورية عبر إنشاء مجلس قومي للقضاء حيث يتقدم وزير العدل بمشروع قانون للنقاش والإجازة من قبل المجلس التشريعي الانتقالي أو الجمعية التأسيسية، ويختار أعضاء المجلس القومي للقضاء من بينهم أعضاءً للمحكمة الدستورية والذين بدورهم يختارون الرئيس، ولا يتم تعيين أعضاء المحكمة الدستورية من قبل رئيس الجمهورية كما كان الحال، وهنا يقول عبدالباسط الحاج: “ما بعد الحرب ينتظر النظام القضائي السوداني انتهاكات جسيمة وقعت في كل من الخرطوم ودارفور وكردفان حيث يجب النظر فيها ورد المظالم ومعالجتها ما يعني أن النظام القضائي يجب أن يتمتع بقدرة وفاعلية عالية للنظر في هذه الجرائم ومحاسبة الجناة لأن الإفلات من العقاب يضعف سلطة الجهاز القضائي”.

ـــ ـــــــ

تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.