تبقى السمة الرئيسية في قيمة التعايش كمفهوم هو علاقته بالآخرين والاعتراف بوجودهم، ضمن سياق التعلم للعيش المشترك في إطار زماني ومكاني قائم على التعدد والتنوع بما يضمن قيام علاقة تسودها الإيجابية.

فهوياتنا الاجتماعية قائمة على العلاقة مع الآخر، فعندما تكون إيجابية، وعلى قدم المساواة معه، فإن ذلك سوف يعزز الكرامة والحرية والاستقلال، وعندما تكون العلاقات سلبية ومدمرة، فإن ذلك سيقوّض الكرامة الإنسانية وقيمتها الذاتية، ويكرس ذلك للكراهية والإقصاء.

دفع السودان فاتورة باهظة الثمن خلال العقود الماضية نتيجة الصدامات الاجتماعية والحروب ذات الأساس السياسي والبعد المناطقي والإثني، خصوصاً في الولايات التي تتمتع بسيطرة قبلية وإثنية، وجاءت حرب نيسان أبريل 2015 تتويجاً لحالة الصراع غير المعلنة في البلاد، متسببة في حرب تبدو نتائجها حتى الآن هي الأسوأ في تاريخ السودان الحديث، مكرسة بذلك مرحلة سوداء للكراهية والإقصاء بين أبناء البلد الواحد.

بصيص أمل

قبل ثلاث سنوات اندلعت اشتباكات بين قبيلتي “البني عامر” و”النوبة” في بورتسودان، شمالي شرق السودان، أسفرت عن مقتل 25 وجرح 87 شخصاً، وفقاً لأرقام “لجنة أطباء السودان المركزية”، كانت هذه إحدى أكثر الصدامات القبلية دموية في ظل المرحلة الحرجة التي تعيشها الدولة السودانية.

مرحلة صعبة تمر بها البلاد اليوم تحتاج إلى قوة اجتماعية وسياسية تعمل جاهدة على ترسيخ النسيج الاجتماعي عبر وسائل التعايش السلمي في البلاد، وهو ما يحاول منتدى ديم النور للتغيير فعله باعتباره منتدى ثقافياً وأحد المنتديات النشطة في مدينة بورتسودان منذ ثورة كانون الأول ديسمبر 2018، والذي شكله مجموعة من الشباب يحركهم الدافع نحو بناء مجتمع متماسك، مطالب بحقوقه الوطنية.

دفع ما يحدث محمود حامد إدريس “توباك” الناشط السياسي والفاعل الاجتماعي في منتدى ديم النور للتغيير في مدينة بورتسودان حاضرة ولاية البحر الأحمر لتأسيس منتدى من أجل الحد مما يجري، يقول توباك حول ما قام به: ’’كان واجباً علينا إيجاد الحلول لإيقاف الصراع، وأنا وزملائي في حي ديم النور تحركنا، وأسسنا منتدى فكرياً لنبدأ في محاولات التغيير على مستوى الحي والمدينة، وترسيخ ثقافة الحوار في سبيل تعزيز التعايش بين المكونات الاجتماعية‘‘.

عمل منتدى ديم النور على عقد جلسات حوار مفتوحة على الهواء نوقشت فيها أهمية التغيير المجتمعي في النهوض والتطور، وكانت القضايا ذات الأهمية هي القضايا العالقة التي تمثل صلب الأزمة، وتطرقت النقاشات حول أزمة الهوية والمواطنة.

ساهم المنتدى في جعل المشاركين قريبين من المجتمع، وترسيخ ثقافة الحوار وتقبل الرأي والرأي الآخر، يقول توباك: “في حقيقة الأمر إن التغيير طويل ومليء بالعقبات والعثرات، إلا أن إنسان ولاية البحر الأحمر ماضي في تحقيق الجوانب الإيجابية منه”.

استيعاب وإدارة

ما يحتاجه السودان اليوم هو استيعاب التنوع الذي يزخر به على كافة المستويات، والعمل على إدارته وفق سياسة الممكن والمستطاع، بعيداً عن التصورات التي أدت للصدام الراهن.

احتياج توصفه منى عبدالفتاح، كاتبة وصحفية في مقال نشره موقع الجزيرة، بقولها: “إن التحرر من الفشل الذريع في إدارة التنوع الذي يفخر به السودان، بينت أنه لا بد من تأسيس نظام حكم ديمقراطي يضمن مشاركة ممثلين عن كافة فئات المجتمع دون تمييز، وتنصح الرموز الحاكمة أن تتحرر من الضيق بالآخر ورفضه، وإعطاء مساحة من القبول للجميع”.

وبرأيها يكمن تعقيد الهوية السودانية في إشكالية مدى إدراك السوداني لهذه الهوية، وهذا الإدراك يختلف من مجموعة إلى أخرى حسب التقسيم المناطقي للسودان، أما الأهم من هذا الإدراك فهو في مدى قدرة هذه المجموعات على التعايش السلمي الذي يبرز أحد مكونات الدولة الأساسية، ومدى احترام بعضها لبعض، كما تقول.

ليس ببعيد، يذهب الكاتب الشفيع خضر إلى ضرورة احترام الدولة للتنوع، وتمثيله في كل برامجها وتوجهاتها، والدعوة إلى نفير مجتمعي يحرك أئمة المساجد، والقيادات المجتمعية للتبشير بالسلام والتعايش السلمي وجبر الضرر.

ويقترح خضر لتجاوز المشاكل القبلية في البلاد إنشاء آلية للإنذار المبكر لرصد بوادر وإشارات التوترات الاجتماعية، والنزاعات بين القبائل، وتجريم خطاب الكراهية والتعصب الإثني، وفرض هيبة الدولة، والحزم تجاه خرق القانون، ومحاولات الإفلات من العقاب، والعمل الجاد على تشجيع ثقافة الحوار.

قبول التسامح

إضافة لحاجته الأولى في إدارة التنوع والمعطيات الراهنة الآخذة في التزايد من حيث شدة الصراع على أساس سياسي وإثني فإن السودانيين بحاجة ملحة إلى التسامح، والقبول به بالتسامي على كل المجريات الحالية ، وهو ما أشار إليه العميد ركن خالد الطيب في ورقة له بعنوان ’’تعزيز التعايش السلمي‘‘، حيث توصل إلى أن التعايش مبدأ أساسي من مبادئ التسامح الذي يدعو إلى العيش في جو من الإخاء بين الناس بصرف النظر عن أجناسهم، وألوانهم، ومعتقداتهم، يجب أن تكون الدعوة إلى التعاون الوثيق بين أفراد المجتمع، والعفو، وقبول الآخر، والعيش بسلام.

الطيب في ورقته أكد على أن التعايش السلمي عكس الكراهية، والعنصرية التي تعمل على تضييق فكر من يمارسها، وهو ضحية بيئته التي نشأ فيها، لاهتمامه بنفسه بعيداً عن الإحساس بالآخرين، مؤكداً أن التجربة الرواندية خير مثال، عندما كان القتل على أساس إثني، وارتكبت أبشع الجرائم ضد الإنسانية، والسودان في غنى عن ذلك، حسب تعبيره.

في السياق، يعمل منتدى ديم النور للتغيير على طرح القضايا الاجتماعية والسياسية في ولاية البحر الأحمر بهدف تقريب أوجه النظر المتباينة بين المجموعات الاجتماعية والإثنية، المنطقة شهدت اقتتالاً متكرراً بين مكونات قبلية في فترات سابقة، لذا المنتدى يهدف إلى تقريب وجهات النظر وإيجاد حلول جذرية لمثل هذه الأزمات، بما يحفظ الكرامة الإنسانية كعامل مشترك بين كافة الأطياف.

يعمل توباك مع العديد من الأشخاص التي تحمل نفس رؤيته على نشر قيمة التعايش السلمي، كما يعتقد أنها سوف تحقق الاستقرار والانسجام والوحدة، عوضاً عن الاقتتال والفرقة، وتمليك الرأي العام المحلي في المدينة أن الصراعات دائماً تكلفتها باهظة، والتعايش يقود إلى التنمية والسلام.

التجربة الشبابية الفريدة في إقليم شرق السودان الغني بالتنوع والتعدد اللغوي والإثني، تأتي في وقت السودان يحتاج إلى دعاة صادقين في سبيل التبشير بالتعايش في كل ربوعه، وليس في مدينة بورتسودان وحدها، ووفقاً لتوباك فإن المنتدى يخطط المنتدى بتمديد فكرته إلى أقاليم أخرى مع استخدام أساليب مختلفة وملائمة، بحسب المناطق التي سيستهدفها.

ويملك السودان تنوعاً كافياً للبناء عليه نحو مستقبل أكثر واحدية وأماناً، مع الحاجة إلى الحاضر الذي يمكن إعادته إلى السودانيين بعد أن وجدوا أنفسهم يهرعون فارين من الحرب وتبعاتها الجسدية والنفسية، ومما فعلته بهم منذ منتصف نيسان أبريل 2023، فهل يستطيعون استعادة سودانهم والذهاب به معهم إلى مستقبل قائم على التعايش والوئام؟

ـــــــ ـــــــــــ

تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.