أثار الفيلم السينمائي السوداني “وداعاً جوليا” لمخرجه محمد الكردفاني جدلاً كبيراً في الأوساط السودانية بعد بداية عرضه في دور العرض بداية من مصر اعتباراً من 25 تشرين الأول أكتوبر 2023، قبل أن تنتقل عروضه لعدد من الدول الأخرى أبرزها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، وانقسمت الآراء حول الفيلم بشكل رئيسي ما بين وجهتي نظر تعتبره إحداهما داعماً للتعايش على خلفية تناوله لقضية العلاقة ما بين السودانيين الشماليين والجنوبيين والتطرق لقضايا مسكوت عنها تجاه تلك العلاقة، بالتوازي مع وجهة نظر ثانية اعتبرت محتويات الفيلم تقدم صورة سلبية عن السودانيين الشماليين وتقدمهم بوصفهم عنصريين محتقرين للآخر في مقابل تقديم السودانيين الجنوبيين باعتبارهم ضحايا مظلومين.

فاز فيلم وداعاً جوليا ب جائزة ڤراييتي لموهبة الشرق الأوسط وشمال افريقيا

عدد من طاقم عمل الفيلم بعد فوزه بجائزة ڤراييتي في مهرجان الجونة السينمائي – محمد كردفاني، فيسبوك

يغطي الفيلم حقبة تاريخية معقدة ومفصلية في تاريخ العلاقة بين السودانيين الشماليين والجنوبيين التي تلت التوقيع على اتفاق السلام الشامل بنيفاشا في كانون الثاني يناير 2005، والتي أنهت عقوداً طويلة من الحرب الأهلية الثانية بين شطري البلاد المندلعة منذ أيار مايو 1983، ويستهل الفيلم قصته بيوم الإثنين الأول من آب أغسطس 2005، الذي تم فيه الإعلان عن مقتل النائب الأول لرئيس البلاد ورئيس حكومة الجنوب وقائد ومؤسس الحركة الشعبية دكتور جون قرنق بعد سقوط وتحطم طائرته التي كانت تقله، حيث عاشت الخرطوم وقتها أعمال عنف وشغب بسبب ردة فعل الجنوبيين المقيمين فيها على الرحيل المفاجئ لقرنق الذي لم يكمل سوى ثلاثة وعشرين يوماً في منصبه الدستوري.

ثنائية الشمال والجنوب

عرض الفيلم ثنائيات (الشمال/ الجنوب) من خلال العديد من الشخصيات فنماذج الشخصيات المتسامحة جسدتها شخصيتا منى وجوليا، فيما عبر زوجة الأولى أكرم والمعجب بالثانية مابيورالضابط بالجيش الشعبي صوراً للمتحفظين على وضعية التعايش بين الشمال والجنوب، وتشجيعهما لخيار الانفصال بسبب التباين والاختلافات والمرارات التاريخية.

فيلم وداعاً جوليا أثار موجة جدل متباينة ما بين مؤيد ومعارض له.

البوستر الرسمي لفيلم وداعاً جوليا – MAD Films

يتنقل الفيلم من خلال قصته ووقائعه بين مضامين ورؤى (الوحدة) و(الانفصال)، والتي اختلطت فيها المشاعر الإنسانية بالمعطيات السياسية، ونتائج الحرب التي جعلت من “جوليا” تدعم الوحدة؛ لأنها عاشت كل حياتها في الخرطوم حتى أنها علقت على اندهاش منى من سماعها وتذوقها ومعرفتها بأغاني المطربين السودانيين من الشمال، وإعرابها عن دهشتها بالرد عليها: “لماذ تبدين مستغربة من هذا الأمر؟ أنا عشت كل حياتي في الخرطوم”، لكن في نهاية اللقطة وهما ترقصان على إيقاع غنية “دلوكة” رقصاً سودانياً يضاف ابن جوليا دانيال للمكان، وحينما يطلبا منه المشاركة في الرقص معهما يشارك برقص ديسكو غربي، وكأن اللقطة تقول بأن هناك جيل جنوب سوداني تتشكل ملامحه، يستعد للانفصال والانقطاع عن إرث تاريخي ظل يجمعه مع شمال السودان، وهو ما ظهر في نتيجة الاستفتاء على استقلال جنوب السودان حينما اختار أكثر من تسعين في المائة من جنوبيي السودان الاستقلال عن دولتهم الأم وتكوين دولتهم الجديدة.

قائمة اتهام

تأسست أغلب الانتقادات على الفيلم لكونه يظهر الشماليين “عنصريين وظالمين” فيما يقدم الجنوب سودانيين “مظلومين ومضطهدين”، والتأسيس على خطاب وسردية مظلومية الجنوب سودانيين المطروح خلال حقبة الصراع بين الشمال والجنوب، ويغفل الفيلم أبعاداً أخرى، ولم يتح مجالاً للرواية الثانية بما في ذلك العبارات التي تحض على الإساءة والتمييز على أساس النوع دون مراعاة لحساسية الأمر الذي يجعل هذا الفيلم يحرض على الكراهية ويقوض التعايش بشكل كامل.

لكن مخرج الفيلم محمد كردفاني يفند لنا هذه الاتهامات خلال إجابته على سؤالنا واستفسارنا في معرض تعليقه إذ ييشير إلى أن الحساسية والغضب من منتقدي الفيلم تجاه ما قدمته الفنون لو تم إسقاطها على كل قضايا الواقع لما تم إنتاج الفيلم من الأساس، وأردف:”ما خلفته حرب خمسين عاماً لن يزيده سوء فيلم مدته ساعتين هذا بافتراض أن الفيلم يغذي الكراهية”.

ويضيف كردفاني: ” الحقيقة البائنة أن الفيلم فيه اعتراف وإنصاف لمظلومية كانت موجودة -ومازالت- ونقد للذات نحن في أشد الحاجة إليه بعد سنوات من دفن الرؤوس في الرمال، وأفكار بالية، وتمسك بامتيازات تاريخية مجحفة هوت بنا إلى الحضيض”.

كردفاني كشف عن وصول عشرات الدعوات لعرض الفيلم في دولة جنوب السودان وأنهم بصدد تلبيتها قريباً، مبيناً أن العرض الأول للفيلم شرف حضوره وفد من سفارة دولة جنوب السودان كان من ضمنهم الملحق الثقافي بالسفارة وأضاف:”بالنسبة للشماليين فقد احتفى الشعب السوداني بالفيلم في مشارق الأرض ومغاربها”، معتبراً أن تبادل الإحتفاء في أوساط السودان وجنوب السودان يعد بمثابة “الدليل الكافي على سذاجة الاتهام” الموجه للفيلم بإثارة الكراهية، حسب وصفه.

ملح على الجرح

ردود أفعال عدة توالت بعد العرض الأول للفيلم، من بينها رد الإعلامي السوداني بإذاعة (هلا 96) حسام محيي الدين الموجود حالياً في السعودية بعد مشاهدته للعرض الأول للفيلم هناك بأنه اتهام للفيلم بتقويض التعايش السلمي وبالتكريس لخطاب الكراهية وهو “أمر غير عادل” على حد قوله.

ويضيف محيي الدين قائلاً: “الصحيح هو أن الفيلم ومن خلال المعالجات والحبكة الدرامية استطاع أن يؤسس للتعايش وأن يضرب معكرات صفو الوحدة بالإشارة الواضحة والتناول المكشوف”.

وبنبرة المتابعة الحصيفة، يقول محيي الدين: “لقد وضع الفيلم الملح على جرح المشكلة التاريخية ووزع مسؤوليتها بين المجتمع والنخب وأنظمة الحكم وممارستها”، معتبراً الذين ينتقدون الفيلم هم الذين تربطهم علاقات بالنظام الذي ارتكب ما وصفها بـ “جريمة تؤرق مضاجعهم” والتي تسببت في فصل الجنوب عن الشمال، وأن طرح هذه القضية بهذا الشكل الواضح ومحاكمتها بشكل سينمائي أرق مضاجعهم، وفقاً لتعبيره الذي عززه بقوله: “جاءت ردة فعلهم رافضة ومحاربة للفيلم بطريقة لا تنبشوا الماضي حتى لا تفضحوا تورطنا”.

دور مستقبلي

فيما يتصل بالدور المستقبلي الذي يمكن أن تلعبه السينما والدراما والفنون في معالجة جروح الحاضر وعلى رأسها تداعيات ونتائج حرب الخامس عشر من نيسان أبريل قياساً بتجربة “وداعاً جوليا” فيما يتصل بالعلاقة ما بين الشمال والجنوب، يقول الإعلامي حسام محي الدين: “أن السينما بإمكانها أن تلعب دوراً كبيراً في معالجة جروح الحرب باعتبارها ضلعاً مهماً بالفنون التي يجب عليها مجتمعة أن تقوم وتسهم في هذا الدور المهم”.

صورة التقطت أثناء تصوير فيلم وداعا جوليا

من كواليس تصوير فيلم وداعاً جوليا – MAD Films

ويعتبر فيلم “وداعاً جوليا” بمثابة أول مشاركة سودانية رسمية في مهرجان “كان”، ونال جائزة الحرية من المهرجان، وحظي بإشادات واسعة من النقاد والمتابعين وحصل على جوائز عديدة كان آخرها حصول مخرج الفيلم محمد الكردفاني في مهرجان الجونة في دورته السادسة في كانون الأول ديسمبر 2023 على جائزة أفضل موهبة عربية في الشرق الأوسط التي تقدمها مجلة (فارايتي) المتخصصة في مجال الترفيه.

تصدر الفيلم خلال محطة عرضه الأولى في دور العرض المصرية في 25 تشرين الأول أكتوبر الماضي في الأسبوع الأول على الأفلام المعروضة في دور العرض بما في ذلك المصرية والأجنبية، وحقق إيرادات في الأسابيع الثلاثة الأولى لعرضه بقيمة اثنين ونصف مليون جنيه مسجلاً أعلى إيرادات لفيلم عربي في شباك التذاكر المصري على الإطلاق.

ـــــــ ـــــــــ

تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.