بعد اندلاع الحرب في الخرطوم ونزوح أعداد كبيرة من سكان المدن الثلاث “الخرطوم وبحري وأم درمان” إلى الولايات التي لم يصلها الصراع المسلح، وباتت تشكل ملاذاً للملايين ممن يواجهون الخطر ببقائهم في منازلهم وأحيائهم السكنية بالعاصمة التي تعيش حالة الحرب الشاملة للمرة الأولى في العصر الحديث للبلاد، حاول السودانيون أن يقاوموا الوضع بطريقتهم الخاصة.

تعاضد اجتماعي فريد، تحول إلى مبادرات أهلية وتعاونيات أعادت اللحمة السودانية رغم أزيز الرصاص الذي لا يفرق بينهم عند التصويب، ويواصل عمله في اغتيال الإرادة السودانية ولا هدف له سوى فت العضد، والقضاء على ما تبقى من السودان، لكن مبادرات جماعية وذاتية تقف بالمرصاد لكل هذه المحاولات، شغلها الشاغل أن يتوفر الحد الأدنى من متطلبات البقاء لمن ما زالوا يؤمنون بذلك.

مساهمة ومبادرة

تماماً كما فعل سليمان، وهو اسم مستعار لأحد سكان مدينة أم درمان الذي كان نازحاً بمدينة ود مدني، عندما قرر بطريقته الخاصة مواجهة صعوبة توفر المواد التموينية في العاصمة، والذي تسبب في خلق شح الغذاء، حدث ذلك عند محاولته الاطمئنان على منزله في الخرطوم، بعد أشهر من نزوحه.

قام سليمان بجلب جِوال من الفول المصري إلى من تبقى من سكان حيه بمدينة أم درمان ووكّل ثلاثة من شباب المنطقة ليقوموا بتوزيع الفول بطريقتهم الخاصة على أهل المنطقة كمساهمة بسيطة منه.

نمر وحسن سعيد وعبدالسلام، هم الشباب الثلاثة الذين وكلهم سليمان لوضع نواة مبادرته الذاتية والتلقائية دون أي تخطيط مسبق، جمعوا مساهمة فيما بينهم، وقاموا بشراء مستلزمات طهي، وبدلاً من توزيع الفول قبل طباخته، قرروا تجهيزه في الصباح الباكر بأحد الشوارع الأكثر حيوية في تلك المنطقة وهو شارع أيمن نمر.

في ظل ما يجري، ظن السكان أن الفول للبيع، وبدأ توافدهم، كان بعضهم يحمل الأواني الفاضية مع بعض النقود، بينما كان البعض ينظر من بعيد، ولكن ما يسعد قلب المشتري حين يقول له أحد المبادرين: “دي كرامة من الحاج سليمان ما للبيع”، اي أنها مجانية وليست للبيع، ويتوالى المواطنون واحداً تلو الآخر حتى علمت المنطقة كلها بذلك العمل الجميل، وأصبح كل منهم يخبر غيره على أمل المساعدة لمن لا يملك قوت يومه.

مبادرة فريدة

بدأت هذه المبادرة في منتصف آب أغسطس 2023، بعد الحرب بأربعة أشهر، بهمة وعزيمة، تستمر المبادرة كل يوم من السادسة صباحاً وحتى الحادية عشر أو قبلها بقليل، حيث يعمل الثلاثة الشباب بجد.

عندما علم سليمان بما فعله الشباب الثلاثة أحب الفكرة الوليدة، والتي كان سبباً فيها، ليرسل لهم من حين إلى آخر جِوال أو جِوالين ؛ ليضمن استمرار هذا العمل الإنساني الفريد، وفي بعض الأحيان يقوم شباب الحي في التنظيم والتقسيم بحسب العدد الكبير للناس الذين أصبحوا يتوافدون من المناطق المجاورة حيث شملت المبادرة ثلاثة أحياء وهي (الرياض – الثامنة – السادسة) ويقع شارع أيمن نمر في منطقة وسطى بين تلك المناطق تقريباً.

وصل عدد المستفيدين ما بين 40 الى 60 شخصاً في اليوم الواحد، حيث يأتي كل واحد منهم بإنائه في الصباح الباكر بانتظار دوره في الصف، وآملاً الحصول على فطور أسرته التي يجهزه الشباب الثلاثة بإمكانيات بسيطة حتى أنهم استعانوا بالحطب في وقت من الأوقات بسبب عدم توفر الغاز.

أخذت هذه المبادرة في التوسع حيث قام فرد آخر من سكان الحي بالمشاركة بجِوال من البلح بجانب قدر الفول، ليصبح المستفيد من الفول يأخذ إلى جانبه مكيال من البلح، وهو بمثابة وجبة متكاملة للبعض، لتستمر هذه المبادرة حتى العمل على هذه المادة، ما يزيد عن أربعة أشهر من العطاء، بجهد ذاتي من ثلاثة شباب، جعلوا من جِوال فول نواة لمبادرة يستفيد منها محتاجو ثلاثة أحياء لتوفير وجبة ضرورية لأسرهم.

على لسانه لهج محمود طه، أحد سكان الحي بالشكر للمبادرة والفاعلين فيها، ويضيف قائلاً: “من فترة ليست بالقصيرة آخذ من الفول الذي يتم توزيعه كفطور لأفراد العائلة والجيران الذين يسكنون معي في نفس البيت المكون من ثلاثة طوابق وآخذ في إناء منفصل نصيب الثلاث الأسر الموجودة في نفس المبنى، لكل أسرة إناء خاص بها”.

تقاليد متجذرة

“ما يبدو مدهشاً وغريباً في دول أخرى، يبقى جزءًا من عادات وتقاليد السودانيين المتجذرة منذ القدم، وهي شكل من أشكال التكافل والتعاضد والمساعدة في وقت الشدة، ومهما اختلف الوصف لما قام به شباب شارع النمر، يبقى الفعل هو نفسه شاهداً على ما يفعله السودانيون لتجاوز محنتهم”، هذا ما قاله الباحث الاجتماعي محمد أحمد حامد (الجوكس).

ووفقًا للباحث الجوكس فإن الثقافة السودانية تزخر بما يوثق هذه القيم الأصيلة، منها الأمثلة والحكم السودانية المتداولة حتى اليوم، في مقدمتها يأتي المثل الشعبي (إيد علي إيد.. تجدع بعيد) الذي يفسر بأنه إذا تكاتفت الأيادي فبمقدورها أن تفعل شيء لا تفعله يد واحدة، وهذه الحالة تبين تكاتف الشباب والسكان المحليين الذين لديهم قدرة الدعم البدني والمالي.

كل بما لديه، حول هذا يلتف الشباب السوداني ليقدموا خدمة اجتماعية تسهل على الناس المصاعب الحياتية التي يواجهونها بحسب ما هو ممكن، حيث توجد أكثر من مبادرة مثل هذه متوزعة في مختلف مدن ومناطق العاصمة المنكوبة وعدد من الولايات الأخرى تحديداً التي نزح إليها غالبية الفارين من الحرب.

وتعيد هذه المبادرات إلى الأذهان تجربة مماثلة للشباب أثناء الاعتصام أمام القيادة العامة، كانت تحت مسمى (عندك خت.. ما عندك شيل) تمثلت في أن مجموعة من الشباب وضعوا صندوقاً ورقياً خالياً ووقفوا عنده وهم يندهون بهذه الجملة، وكانت الاستجابة كبيرة فالذي يملك مالاً فائضاً عن حاجته يضعه في الصندوق، ومن لا يملك تكلفة التوصيل والعودة إلى بيته يأخذ من نفس الصندوق في تجسيد عملي للقيم التشاركية بين السودانيين التي تجاوزت الشعور والقول إلى التجسيد العملي لتتوارثه أجيال بعد أجيال لا هم لها سوى أن يكون السودان بخير وأمان.

ـــ ــــــــ

تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.