من يعرف الريف وأهله لا يذوق للحياة في المدن معنى، ويكون نادماً على ما أضاعه من عمره في شوارعها الصاخبة والمكتظة، هكذا يحكي نصر الدين عبدالقادر، 32 عاماً، وهو صحفي أجبرته الحرب على مغادرة منزله في العاصمة السودانية الخرطوم، ووجد نفسه أمام خيار واحد، وهو النزوح والمرور عبر إحدى المناطق الريفية بالبلاد.

خرج من الخرطوم بعد اشتداد القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في محاولة الدعم السريع السيطرة على معسكر الشجرة، لم يكن وحده، فكل الأهالي في منطقة الشجرة والري المصري وجدوا أنفسهم في رحلة البحث عن مأوى، يقول نصر الدين عبدالقادر: “قبل شهرين ونصف خرجتُ من الخرطوم بعد أن اشتدت علينا وطأة الحرب ودوي مدافعها وقذائفها التي لا تفرق بين أحد، خرجت في رحلة هروب وصلت خلالها مدنا عديدة، ابتداء بكوستي، ومدني، وعطبرة، لكن لم أجد مكانًا يحتضنني بمآسي غير تلك القرية النائمة بحضن النيل”.

تبعث الطمأنينة

تختلف الحياة في الريف بشكل كلي عن المدينة؛ فواحدية الشعور، وتداخل العادات والتقاليد، والتناغم الاجتماعي في أعلى مستوياته، وهو ما لمسه نصر الدين الذي يصف الحياة في الريف بأنها تبعث الطمأنينة، وتمنحك شعوراً بأنك جزء منهم ولست مجرد ضيف، وكأنهم يعرفونك منذ أن ولدت.

لحظات ممزوجة بروابط المكان والزمان، يؤكدها بقوله: “لم يكن في خلدي أن تسحرني تلك القرية التي تقع على ضفاف النيل الأزرق، ولكن القدر ساقني لأرى أصالة الشعب السوداني، والقيم النبيلة، هنا وجدت المحبة والتآلف، ولا إحساس بالغربة، بل شعرت بالطمأنينة بعد عذابات الحرب، ورحلة النزوح الطويلة”.

المشاعر التي لمسها نصرالدين رآها ماثلة أمامه في سماحة الناس التي جعلت حياتهم بسيطة؛ فالشباب حين يأتي ضيف يأتون بصواني الطعام، ويحفونه كأنه ضيف الجميع وليس محصوراً بشخص أو بأسرة معينة، ويتشاركون في ضيافته حيث يأتي كل فرد بما لديه دون تكلف، ويعكسون طباعهم هذه لدى ضيوفهم بعد أن يتشاركوها بينهم البين، كما يقول.

قيم راسخة

كان نصر الدين قاصداً وجهة أخرى، واختار المرور بالريف كنقطة توقف مؤقتة في طريق نزوحه الطويل، يحكي عن ذلك بالقول: “حينما غادرت الخرطوم عبر طريق الدويم الرابط بين ولايتي الخرطوم والنيل الأبيض باتجاه مدينة عطبرة لوجود أختي هناك، كان لابد من المرور بسنار، وتذكرت أن صديقي يسكن في ريف مدينة سنار، هاتفته وذهبت إليه لأبقى معه يوم، ثم أكمل طريقي، ولكن حينما وصلت سحرتني تلك القرية وطيبة أهلها فمكثت فيها ثلاثة أسابيع، لم أستطع المغادرة؛ رأيت السودان، وأهله الطيبين، ولكن كان لابد من المغادرة لارتباطي بعدد من الأمور”.

تركت قرية أبو جيلي في نفسه أثراً كبيراً، ما دفعه إلى وصف شعور مغادرته منها بأنه يشابه تماماً شعور مغادرته لمنزله بالخرطوم. حتى أنه لم يبقَ في ود مدني حيث لم يطب له المقام فيها، فغادرة إلى عطبرة، ثم الدامر، وفي كل تلك المدن لم يجد شعور الطمأنينة وراحة البال التي شعر بها في الريف، يقول نصر الدين: “لابد من عودة للريف الذي أجد فيه هويتي والسوداني الذي يريدون قتله وبتلك الأرياف لا ولن يموت”.

يعزز حديث نصر الدين ما دفع هروع عدد من السكان الأصليين لتلك القرى إليها عند اندلاع الحرب، والاستمتاع بممارسة الأنشطة الجماعية القائمة على التعاون كالزراعة واستصلاح الأرض.

عودة إلى الجذور، هكذا يصفها الباحث الاجتماعي عبدالله شوالي، ويضيف: “ما حدث من تكاتف داخل المجتمعات السودانية بعد الحرب في كل الولايات بمدنها والأرياف يمكن أن نضعه في منظور العودة إلى الجذور”، ووفقاً للباحث شوالي ففي علم الاجتماع: “تحدث عملية حركة المجتمعات نتيجة للصراع وتظهر هوية المجتمع التي تكونت نتيجة للعادات والتقاليد وكذلك الهوية الدينية”.

وتابع شوالي: ظهر ذلك في المجتمعات السودانية بشكل عام، وقد تمظهر في تشكيل غرف الطوارئ وفتح البيوت للنازحين وقد حدثت استضافة لمعظم النازحين من الحرب”.

الناشط السياسي أحمد الفحل يذهب إلى ما ذهب إليه شوالي، ويضيف: “هناك عوامل وطول أمد الحرب أظهرت سلوكيات ليست لها علاقة بالمجتمعات السودانية ولكنها نتيجة للأوضاع الحالية التي أفرزت مصاعب معيشية معقدة، تحديدًا في المدن”

ولا يعمم الفحل ما أطلق عليها بالسلوكيات الطارئة، فهو يرى أن المجتمعات الريفية مازالت محافظة على قيمها وسلوكياتها الإيجابية، وتجدها تعكس كل ما ترسخ في الثقافة السودانية وهي مدركة وملمة بالأصالة.

سلوكيات هي ذاتها التي أبهرت نصر الدين، وجعلته يتمنى أن تعم أرجاء السودان؛ كي تفيض البلاد بالمحبة والوئام بدلاً من الصراعات التي أنهكت البلاد والعباد، حسب تعبيره.

الريف المختلف

يشهد للريف السوداني أنه مثل ملاذاً لآلاف الأسر التي فرت من جحيم المواجهات الدائرة في عدد من المدن الرئيسية بالبلاد، ومن بين المناطق الريفية كانت قرية أبو جيلي التي مكث فيها نصرالدين أسابيع جعلته يصفها بأنه تشكل نواة لوحدة وتعايش السودانيين.

يقول رئيس لجنة الخدمات والتغيير وعضو مجلس الأهالي في محلية شرق سنار الطيب عبدالله: “أن محلية شرق سنار استقبلت قرابة عشرين ألف نازح ونازحة، تم استقبالهم من المواطنين في منازلهم، وتقاسموا معهم طعامهم وشرابهم، ولم يسمحوا بإنشاء مخيمات إيواء منعزلة سواء في مدارس أو أماكن مفتوحة”.

كان نصيب قرية أبوجيلي الواقعة في ريف شرق سنار أكثر من ٨٠٠ نازح، كلهم نزلوا في ضيافة الأسر إلا عدد قليل قام باستئجار منازل ويتم التعامل معهم كأنهم من أبناء القرية، ولكنهم لم يتركوا وحدهم إذ منحوا أدوات منزلية وأسرّة وبعض الاحتياجات المنزلية الضرورية، وفقاً للطيب.

لم تتوقف الحفاوة عند كرم الضيافة وحسن الاستقبال، فإضافة لذلك – كما يقول الطيب – قامت مجموعات شبابية في المنطقة بتنفيذ برامج ترفيهية للنازحين وتنظيم دوري كرة قدم حتى يكون جزءاً من تأهيل القادمين ودمجهم في المجتمع، حتى أن بعضهم بات يفكر بالاستقرار في محلية شرق سنار بشكل دائم.

ـــــــ ـــــــ

تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.