كثيرة هي القصص الملهمة التي تعبر عن وجوه أخرى لعطاء الإنسان وسط الشدائد، هذه المعاني جسدها الشباب والشابات السودانيون إبان اعتصامهم أمام القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية في العام ٢٠١٩، حيث أعيدت لحمة المجتمع بعد أن عملت على تفكيكها الصراعات السياسية والاقتتال على السلطة.

ظل الشباب السوداني متماسكاً أمام كل الهزات المناطقية والسياسية، وواصل عبر شعار (حنبنيهو) الذي أطلق عقب نجاح ثورة كانون الأول ديسمبر 2018، حيث ضجت الشوارع بالأهازيج، مصحوبة بمهرجانات التعمير، والتشجير، والنظافة، واللوحات الفنية التي تعكس نضال من نادوا بالحرية، والسلام، والعدالة، وانتظمت برامج التكافل المجتمعية، وتطبيب جراح من ذاقوا ويلات المرحلة بسبب التمسك بالمبادئ وشعارات الثورة لأجل بناء سودان الحرية والعدالة.

معاني العطاء

عمر شول المأمون كوكو واحد من مصابيح الطريق التي تضيء للمحاصرين تحت الرصاص نفقاً آمناً كي يتنفسوا بعض العافية، وسط الإحباط والشعور بالمرارة والآلام إذ الدمار الواسع الذي خلفته الحرب التي اندلعت في منتصف نيسان أبريل ٢٠٢٣ بين الجيش وقوات الدعم السريع.

كانت كل الطرق مغلقة، والمواصلات متوقفة، والوجوه هائمة في الأحياء، عصف ذهني متعب ما بين الخوف وأمل النجاة من رصاصة هنا، وقذيفة هناك، ولا وجود لجهة تحمي الناس مما يحدث، فالخدمات شبه منعدمة، الأدوية، الخبز، الماء، والكهرباء، انخفضت الأنوار، بل حل الظلام الحالك نتيجة انهيار أعمدة الكهرباء جراء الاشتباكات العسكرية.

في هذا الوقت كان عمر وعدد من شباب الأحياء بمنطقة الحاج يوسف بالخرطوم بحري شرق النيل، يجسدون كل معاني العطاء حيث أسس عمر ما أطلق عليه مبادرة (فريق الاستجابة) وهم مجموعة من الشباب شقوا غبار الحرب لينقذوا بعض معالم الحياة في الأحياء الفقيرة.

فريق الاستجابة هو اسم المبادرة التي أسسها عمر وبعض من شباب أحياء الحاج يوسف، يحكي عن مهامها قائلاً: “أطلقنا المبادرة بعد تدهور الأوضاع في البلاد جراء الحرب وسوء الخدمات، والتي انعكست على واقع الحي والأحياء المجاورة التي تقع في وحدة السلام التابعة لمنطقة الحاج يوسف، شرق النيل، وهي منطقة من ضمن مناطق العمليات العسكرية، ففي ظل تغيب الجهات المنوط بها العمل جاءت المبادرة”.

جهود ملموسة، أكدتها المبادرة من خلال ما قامت به، وهو ما يعززه عمر بقوله: “كان لابد أن نطلق المبادرة التي ركزت على الخدمات الأساسية (ماء، كهرباء، وصحة)، وفريق المبادرة قام بحل مشكلة المياه حيث أصلحنا الصهريج الرئيسي الذي يغذي حوالي 4 مربعات سكنية بعد ما تعطل لقرابة الأسبوع بجانب معالجة عطل المحول الكهربائي بعد انقطاع التيار من الحي لمدة شهر كامل.

جابه عمر وفريقه آثار الحرب بعدة حملات ساهمت في تضافر الجهود وتماسك المجتمع، كحملة إصحاح البيئة التي استهدفت أماكن تجمع النفايات التي غطت الميادين والساحات العامة بجانب حملة إنارة الحي التي ما زال الفريق يواصل تنفيذها.

رغم مرارة الحرب وحالة الإحباط المحيطة غمرت السعادة مهند يونس أحد سكان منطقة الحاج يوسف بعد ما قدمه فريق الاستجابة لأحياء المنطقة، وعبر مهند عن شكره للقائمين على المبادرة، مؤكداً “أنهم يتمتعون بروح عالية، أثمرت نتائج ملموسة في الحي والمنطقة”.

تضامن اجتماعي

بين رؤيتين تظل القيم والجوانب الإنسانية هي المحك الحقيقي لمصداقية الشعوب في تقبلها لواقعها الجديد بعد صدمات الحروب والكوارث، وهو ما تعيشه السودان في ظل المجريات الراهنة التي أفرزت واقعاً مختلفاً في البلاد، اقتتال، وتهجير، ونزوح، وغياب شيه كلي لمؤسسات الدولة الخدمية والإدارية.

الصحفي والباحث في قضايا النزوح عاطف كمبال لفت إلى أن هنالك جوانب متعددة يمكن من خلالها الوقوف على مبدأ التلاحم الاجتماعي في ظل واقع الحياة التي فرضتها الحرب على سكان المدن المشتعلة ومناطق النزوح، وأضاف: “حرب أبريل، ساهمت بقدر كبير في اختراق الذاكرة الجماعية للمواطنين، وجعلتهم يعرفونها بصورة واقعية ومباشرة، وهو ما يكوّن الهم الشعبي المشترك، ويعزز إحساس الناس بمعاناة بعضهم البعض”.

يملك كمبال أدلة على وجود التضامن الاجتماعي اليوم، فالمبادرات على اختلافها، سواء كانت من أفراد، أو جماعات مرتبطة بمنظومة العمل المدني أو جمعيات خيرية وروابط أهلية، وحتى مجموعات في وسائل التواصل الاجتماعي، كلها تؤكد على قيمة وأهمية العمل المشترك، كأداة من أدوات مقاومة واقع الحرب في البلاد، كما يقول.

يحاول السكان والنازحون عبر المبادرات الوليدة خلق واقع موازي يستطيعون من خلاله مساعدة بعضهم البعض، والتعايش في ظروف الحرب، وهي امتداد لتفاعلات مجتمعية توضح بصورة جليه كيف يجابه السودانيون الحرب.

بإعجاب كبير يرى كمبال أن الإرث الإنساني المتجذر في وجدان السودانيين يشكل منطلقاً لما يقومون به اليوم، ويضيف: الحرب أنعشت قيم التضامن الاجتماعي لدى الناس، وبالتالي إذا طالت ستطوّر معها أشكال وأساليب التماسك بين المجتمع؛ لأن المجتمعات نفسها لديها مراحل تطور وتأقلم مع ظروفها المُحيطة”.

من وسط الركام

تختلف الحرب في السودان في بنيتها التكوينية فالجيش يواجه قوات شبه رسمية، مع دخول المواجهات في حسابات مناطقية وعرقية، ما أدى إلى آثار كارثية في عدد من الولايات، ومن بينها شمال دارفور.

تحكي عرفة موسى ناشطة اجتماعية في مجال حقوق الإنسان عن تلك الآثار في ولاية شمال دارفور، والتي كانت سبباً في نزوح عشرات الآلاف من أحياء تعرف بكثافتها السكانية، كالأحياء الشمالية والشرقية، حيث يوجد 63 مركز إيواء داخل الولاية، نزحت إليه 17.581 أسرة بواقع 91,820 فرداً من مختلف المحليات والولايات.

وحول الوضع التي تعيشه تلك المراكز، تقول عرفة: “توفير الغذاء والمساعدات الإنسانية مرتبط بوجود ممرات آمنة، لكن الطريق الرابط بين الخرطوم والفاشر توجد به ارتكازات عسكرية مما يصعب حركة نقل البضائع والمساعدات الإنسانية، وأغلب النازحين معتمدين على الخيرين والجهود الشعبية”.

الحراك المجتمعي للتخفيف من وطأة الحرب والنزوح وحده مازال يعمل مهما كانت الظروف، فشباب وشابات الفاشر قدموا مثالاً للتكاتف والتلاحم المجتمعي في مواجهة ظروف الحرب حيث يعملون بشكل تطوعي لخلق مبادرات تشغّل أكثر من 20 مركزاً صحياً في ظل وقف المستشفيات والاستيلاء عليها لأكثر من ٦ أشهر، وتشمل هذه المبادرات تخفيف الضغط النفسي على المتأثرين بالحرب وأخرى لرتق وربط النسيج الاجتماعي ووقف خطابات الكراهية، وفقًا لعرفة.

أنور خاطر عضو في المبادرات الشبابية بمنطقة شمال دارفور، تحدث عن آلية عملهم قائلاً: “هنالك لجان لتسيير وتنظيم عمل المراكز، وتم جمع كل اللجان وأطلق عليها غرفة طوارىء المراكز الصحية بالفاشر، يوجد فيها كل الممثلين للمراكز الصحية”.

يضاف إلى ذلك مبادرات وقف الحرب إذ تم طرح مسودة من متطوعين تحت مبادرة نداء وقف الحرب في السودان بجانب مبادرة أساتذة جامعة الفاشر وعدد من المبادرات الأخرى.

ويتطلع السودانيون بأن تتوقف الحرب المباغتة التي ضربت قلب العاصمة الخرطوم، وأربكت حسابات الكثيرين، جراء توقف المرتبات، وعدم وجود مدخرات لمعظم الأسر المعدمة مما عرضها إلى الفقر الشديد، وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى نزوح أكثر من 7 مليون شخص داخلياً وأكثر من مليون خارجياً، ليبقى السودانيون في حالة ترقب وانتظار لانتهاء هذه الحرب، يرممون جراحهم ويتكاتفون مع بعضهم البعض مرددين أبياتاً للشاعر الراحل إسماعيل حسن:

محل قبلت ألقاهم معايا معايا زي ضلى

لو ما جيت من زي ديل كان أسفاي وآ مأساتي وآ ذلي

تصوّر كيف يكون الحال

لو ما كنت سوداني وأهل الحارة ما أهلي

تصوّر كيف؟!

ـــــــ ــــــــــ

تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.