يعتبر السودان من الدول التي تملك عدداً هائلاً من العادات المتفردة التي ﻻ تتواجد عند سواها، إذ يتميز بها وحده، وهذه العادات والتقاليد ظلت عنصراً للوحدة لتشكل نواة للتعايش السلمي ورتق النسيج الاجتماعي.

وتنشط هذه العادة وسط القبائل والمجتمعات السودانية المختلفة، وهي ما تعرف “بالجودية”، والجودية مصطلح سوداني قديم يستخدم في كل بقاع السودان، ويعني الإشراف على تسوية الخلافات بين أفراد المجتمع من مختلـف مستوياته فـي إطـار مؤسسـات محلية من دون اللجـوء إلـى محـاكم الدولـة الرسمية.

و”الأجاويد” هم مجموعة من الأشـخاص الذين نـالوا مراكـز اجتماعية ذات قيمة عالية، ويتميزون بالتعقـل، ورجاحـة الفكر، والإلمام بالسـوالف والعـادات والتقاليد والأعراف المتبعة في جلسات الجودية، وهمّهم الأساسي إعـادة الصِـلات بين الأفـراد المتنازعة ورد المظالم وجبر الضرر.

ويفرد المجتمـع السوداني مكانـة عالية للـ “الجودية” و”الأجاويد”، حيث أحيطت “الجودية” بسياج يشبه القدسية، فلا يعارض قراراتهم إلا الخـارجون عن العـرف الاجتمـاعي، وهم ينعتون هـذا الخـارج بـ”كسّار الخواطر”.

عن الجودية

تنتمي الجودية إلى فصيلة المؤسسات الأفريقية التقليدية التي تعنى بمعالجة النزاعات بين الأفراد أو الجماعات. حيث تطرقت الدراسات الأفريقية إلى أجهزة شبيهة في دول أخرى مثل القاجاجا في رواندا، ومحكمة الأكانس في غانا، وكبيلي في ليبيريا، والند نيولي في تنزانيا، ولعل أشهر هذه المؤسسات هي القاجاجا والتي استخدمت لمحاكمة المتورطين في الإبادة الجماعية في رواندا عام ١٩٩٤، والتي راح ضحيتها قرابة المليون نسمة.

من الجوديات والمصالحات التي تمت بالقارة الأفريقية أيضاً لجنة الحقيقة والمصالحة التي تم تكوينها في جنوب أفريقيا، أثناء رئاسة نيلسون مانديلا للبلاد عندما عمل على إنهاء نظام الفصل العنصري وهيمنة الأقلية البيضاء، وهيئة الإنصاف والمصالحة بالمغرب التي تعتبر لجنة وطنية مغربية للحقيقة والإنصاف والمصالحة، كونها الملك محمد السادس عام ٢٠٠٤ لتحقيق المصالحة حول انتهاكات حقوق الإنسان التي حدثت منذ الاستقلال.

إضافة لذلك، لا تُنسى لجنة المصالحة التي تشكلت في السودان خلال الفترة الأخيرة، تحديداً بعد أحداث الـ ١٥ من نيسان أبريل، إبان نشوب صراع بين قبيلتي البني هلبا والسلامات بولاية جنوب دارفور حيث استطاعت المكونات المجتمعية وباستخدام الجودية المصالحة بين القبيلتين لوقف العداء والتعهد بعدم الاقتتال، كل ذلك تم بواسطة المصالحات الشعبية تحت مظلة (الجودية).

تجارب ناجحة

العمدة الحسن علي أحمد الشهير بمأدبو الذي ولد بمدينة الضعين عاصمة ولاية شرق دارفور، وعمل كرجل إدارة أهلية، وقام بالعديد من الجوديات التي أثمرت سلاماً ومحبة. يشهد له إقليم دارفور بنزاهته، وقوة حواره، وتأثيره على المتخاصمين، وسهولة تعامله في فض النزاعات.

عمل مأدبو في لجنة تعزيز الأمن والسلام الاجتماعي برفقة عدد من الإدارات الأهلية والشباب والقيادات لمنع الولاية من الانزلاق إلى هاوية الحرب، بعد 15 نيسان أبريل، وقد نجح في ذلك بالنظر إلى ما يحدث في بقية ولايات دارفور.

يحسب لمأدبو أنه عندما جاءت الفرقة ٢٠ مشاة إلى الولاية عقد جودية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع بمشاركة كل أعيان المنطقة؛ لوقف النزيف، وإهدار المزيد من الأرواح، وحتى تنعم الولاية بالسلام، وبعد العديد من الجوديات نجح في التوصل إلى حل جنب من خلاله الولاية شر القتال.

بلغة تقديرية تثمن الناشطة النسوية زيتون محمد حضور الأجاويد في وسط المجتمع السوداني مؤكدة مدى قدرتهم على حل النزاعات، تقول زيتون: “إذا كان شيوخ القبائل لديهم الهمة لخلق سلام اجتماعي وتعايش سلمي، فالجودية لديهم القدرة في حل النزاعات؛ لأنهم يتمتعون بالقبول من مكوناتهم، ولديهم العديد من الخبرات المتوارثة عبر السنين، والحكمة والمرونة في تبسيط حجم النزاع”.

وترى زيتون أن من المهم إعادة هيكلة الجودية عن طريق دمج الشباب والنساء للاستفادة من خبرات كبار السن، ومزجها بالأفكار الشبابية المواكبة للمتغيرات الراهنة.

غير بعيد، يركز اختصاصي السلام وفض النزاعات عثمان آدم إسماعيل في حديثه على أهمية الجودية، وما تمتلكه من آلية قديمة وتقليدية قائمة على الأعراف المجتمعية، ساهمت عبرها في حل النزاعات بطرق سلمية، وهو ما أيد المجتمعات التي لديها العديد من العوامل المقوية للصلات عبر دعم الأجاويد لها.

يشرح عثمان هذه الآليات قائلاً: “توجد طرق علمية لإدارة المجموعات منها التحكيم أو المحكمة، الجلوس الذي ينقسم إلى قسمين جلوس المتخاصمين لوحدهم أو جلوسه بواسطة مفاوض أو حَكَم وتدخل الجودية في المفاوض والتحكيم بتقريب وجهات النظر وإيجاد حل يرضي جميع الأطراف مما جعل نشر السلام في المجتمعات المتأثرة بالحرب سهلاً”.

هذه الأدوار ما زالت على قيد الحياة وفعالة مع زيادة أهميتها في الوضع الراهن على مستوى صناعة التعايش السلمي، والسلام، والوصول إلى قبول الآخر، والمصالحات وسط المجتمعات المتضررة مع جبر الضرر وإحياء الذكرى، والكلام هنا لعثمان.

من وسط الهم

في مارس ٢٠٢٣ كانت شذى ورهف – اسمان مستعاران – مفعمتان بالحياة والرغبة في تغيير وخلق مجتمع متماسك يسوده قبول الآخر والمحبة والتسامح، حيث انطلقتا في رحلة طويلة لتحقيق واقع يشبه طموحات وأحلام الشعب السوداني.

كانت وجهتما الأولى منطقة مولي وقوكر اللاتي تقعا في أقصى غرب السودان بولاية غرب دارفور حيث التنوع والطبيعة، واختلاف اللغات والثقافات.

تلك المناطق عاشت ظروفاً صعبة ومريرة من أحداث الحرب التي تناوبت عليها في فترات سابقة، ومخلفاتها، ورغم ذلك ما زالت تتحالف مع الحياة، وهو ما تلمسه عندما تصلها، فأصوات الباعة الجوالة مخلوطة بصوت الأذان، وضحكات ولعب الأطفال في الشارع، ونضالات النساء اللواتي يفترشن الأرض، ويرسمن ملامح الرضا على وجوه الآخرين، ويعتصرن الألم من أجل غد أفضل لأطفالهن وأسرهن، وهو ما دفع الفتاتين للبدء من هناك، حتى يؤكدن على حقيقة انتماء هذه المناطق للحياة على حساب الموت، كما تقولان.

استطاعت الفتاتان جمع عدد كبير من سكان المنطقتين، نساء، وأطفال، وشباب، وإدارات أهلية، وسياسيين، وناشطين، وغيرهم تحت ظل شجرة واحدة.

لم يتخوفن من التوتر الأمني والإثني الذي كانت تعيشه المنطقة، بل جمعتا كل القوة والحب الذي بداخلهم لخوض التجربة، ونشر التعايش، فكانت أولى الجلسات عبارة عن نقاش واستماع لقضايا الجميع ومشاكلهم تحت مظلة الجودية والمصالحات.

بعد كل تلك الجلسات بين جميع مكونات مجتمع تلك المناطق تمكنت الفتاتان من تكوين لجان إنذار مبكر، ولجان مصالحات من المجتمعات المختلفة بمشاركة كل أطياف المجتمع، فتقاربت وجهات النظر بين المختلفين، وتسامح المتخاصمون، وساد الحب الجميع.

كما أقامتا العديد من الفعاليات المكملة للجودية والمصالحات كالمنافسات الرياضية الخاصة بالسلام حيث جمعت المنافسة أبناء المنطقتين مع مزجهم في فريق واحد، وتنظيم يوم ثقافي لتزيين وتوسيع المشاركة.

هكذا إذن، يملك السودانيون نية تحتية للتصالح الاجتماعي، فالجودية والأجاويد لديها القدرة الممكنة للقيام بما يلزم للحد من الصراعات الاجتماعية، والتحول نحو التعايش المستدام بين السودانيين.

ـــــــ ـــــــــ

تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.