تشد السودانيين بعضهم إلى بعض لحمة التاريخ والثقافة وإيقاع الأرض، بعيداً عما يبدو ماثلاً في صراعاتهم المسلحة ذات الطابع السياسي.

يتبدى هذا الانشداد في مناسبات كثيرة تجمعهم، من أهمها المناسبات الدينية، فمع دخول شهر رمضان، وإحياء الليالي كليلة النصف من شعبان، و”الرجبية” أو ما تعرف بذكرى الإسراء والمعراج، والمولد النبوي الشريف تنصب السرادق في الساحات الملونة والمزدانة التي تفوح منها رائحة الأبخرة الزكية، أجساد طروبة، وأرواح محبة، وقلوب يملؤها السلام.

إضافة إلى هذه المناسبات الدينية الإسلامية، يتشارك السودانيون أيضًا الاحتفال بالمناسبات والأعياد المسيحية عندما تدق أجراس الكنائس، وترتفع أصوات الترانيم في العاصمة السودانية الخرطوم ومدن البلاد الأخرى.

ويعتبر السودان بفضل التداخل التاريخي بين سكانه بلدًا للتعدد الثقافي والإثني والديني بشكل لافت، مما جسد لوحات جمالية من التسامح والتعايش بين أبنائه، يبنى عليها اليوم وغدا، للبقاء متماسكين في وجه الصعوبات المحدقة.

ربيع المحبة.. نشيد على كل قلب

بأشواق حارة، ومحبة باذخة وسمَت قلوبهم منذ زمن بعيد، ينتظر السودانيون بشوق شديد حلول شهر ربيع الأول وهو الشهر الذي شهد ميلاد نبي الإسلام محمـد.

تبدأ الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف الذي يحظى باهتمام بالغ لدى السودانيين في الأيام الأخيرة من شهر صفر، ويستعد الناس – خصوصاً الصوفية ذات الانتشار الواسع في البلاد – بنظافة الساحات والميادين في كل المدن؛ استعداداً لنصب السرادق، وتزيينها بالأقمشة الملونة بالأخضر والأحمر والأصفر، كما يتم تركيب الأنوار بتشكيلات عديدة يغلب عليها اللون الأخضر.

وفي عصر اليوم الأول من شهر ربيع الأول تبدأ “الزفة”، وهي تجمع لعدد من المواكب الراجلة على متن العربات بقيادة المسؤولين المحليين، ومشايخ الطرق الصوفية، وأعيان ورموز المنطقة تتقدمهم الموسيقى العسكرية.

تجوب هذه المواكب الشوارع، وتبدو للعيان الأعلام الخضراء والملونة، بينما ترتفع أصوات إيقاعات الطبول الطروبة التي تبهج الآذان، وتصدح الحناجر بالأناشيد المُعظِّمة للنبي الكريم، وصولاً لباحة الاحتفال الرئيسية.

تقام مراسم الحفل كل يوم جمعة قبل غروب الشمس مباشرة، باستثناء شهر رمضان، وتتميز بالموسيقى والأناشيد وحرق اللبان. يدور بعض المشاركين بينما يسير معظمهم ببطء في دائرة كبيرة.

بعض “الدراويش” في مسجد النيل في منطقة أم درمان، يوليو 2011 – تصوير: مارك فيشر

وتعد ساحة الخليفة بمدينة أم درمان أحد أبرز الأماكن التي درجت على استقبال آلاف السودانيين المحتفلين بذكرى المولد النبوي الشريف كل عام.

تتنوع مظاهر الاحتفال منذ بداية شهر ربيع الأول وحتى نهايته بين تلاوة السيرة النبوية، وإقامة الندوات، وتنظيم حلقات الذكر إلى جانب الدروس التي تحث الناس على قيم المحبة والجمال ونكران الذات.

بينما يتخلل ذلك توزيع التمر، والحلويات، والأطعمة المبذولة لكل الزائرين بمختلف فئاتهم وخلفياتهم الثقافية والدينية.

تبلغ هذه المظاهر الاحتفالية أوجها يوم “القفلة” ويقصد بها الحادي عشر من ربيع الأول حيث يستمر الاحتفال حتى بزوغ فجر اليوم التالي ميقات مولد النبي الكريم.

“أخرج مع أقراني في ذلك اليوم ونحرص على مرافقة الموكب المتجه لباحة الخليفة التي عادةً ما تكون مكتظة بالزوار، تشدنا مظاهر الفرح، نصغي للمنشدين وهم يرددون المدائح والسيرة النبوية بأصوات عذبة، وفي نهاية اليوم نتناول بعض الطعام الذي يتم توزيعه على الحاضرين بنية التبرك”، هكذا يحكي الثلاثيني لؤي محـمد الذي يقطن مدينة أم درمان ذكرياته مع الاحتفال بالمولد النبوي.

الرجبية: عندما تشد الرحال

يضع السودانيون اعتباراً خاصاً للرجبية التي يحتفلون فيها بذكرى ليلة الإسراء والمعراج في المنازل والزوايا، كما يجدها البعض فرصة لزيارات المقامات الصوفية، حيث يذهب كل مُريد إلى شيخه إحياءً لهذه الليلة المباركة، وتُقام حلقات الذكر واستعراض القصص والمعجزات النبوية.

درج أبو القاسم حامـد – 43 عاماً – زيارة بلدة “الشكينيبة” بولاية الجزيرة لإحياء ليلة السابع والعشرين من رجب منذ أعوام عديدة، ويقول إنه: “يفعل ذلك بهدف زيارة هذه البقعة الطيبة، والالتقاء بالأحباب والأصدقاء الذين يفدون من أماكن مختلفة”.

وتقع الشكينيبة في الجزء الجنوبي الشرقي لمدينة المناقل، وفيها مقام الشيخ عبد الباقي المكاشفي التي وفد إليها في العام 1910.

بنى الشيخ المكاشفي المنازل، وحفر البئر، ثم بنى مسجده الذي يتوافد إليه المحبون من مناطق السودان المختلفة، كما يتوافدون إليه من كافة أنحاء العالم خصوصاً في الـ 27 من رجب، كل عام هجري.

“أغلب التجمعات السكانية في السودان تكونت من خلال نواة لمؤسسة دينية أنشأها شيوخ الطرق الصوفية”. بحسب الدكتور عباس الحاج الأمين المتخصص في علم الفولكلور، وبهذا يعيد الفضل للتركيبات السكانية إلى نواة دينية كانت وراء نشأتها.

النصف من شعبان: عقد اجتماعي جديد

ليلة النصف من شعبان هي الليلة التي تسبق يوم 15 شعبان، وتبدأ مع مغرب يوم 14 شعبان، وتنتهي مع فجر يوم 15 شعبان، وتعد إحدى المناسبات التي تجمع السودانيين وفيها يتبادلون العفو وقيم التسامح والمحبة.

ودرج السودانيون على الصيام في النصف من شعبان، ويعد من الأيام المعظمة لديهم، ويعتبرونه فرصة لدعوة بعضهم البعض لتناول وجبة الإفطار في نهايته وهم يستشعرون قرب بدء شهر رمضان.

رمضان الخير

“من أجمل مظاهر الاحتفال بشهر رمضان الكريم لدى السودانيين هو خروج الناس إلى ساحات المساجد والطرقات للاحتفال برؤية الهلال”، يقول لؤي محمد.

ويبدأ السودانيون استقبال شهر رمضان مع بداية شهر شعبان، ويشتهرون بإعداد مشروب “الآبرية” أو “الحلو مر” وهو مشروب حلو المذاق يتم إعداده من الذرة والتوابل.

ويجد السودانيون شهر رمضان فرصة لتقاسم كل شيء بما في ذلك تبادل الأطعمة، والزيارات، وصلة الرحم.

كما يختار سكان الحي مكاناً يتجمعون به لتناول وجبة الإفطار، وأداء صلاة المغرب في جماعة، وينتهي اليوم بتناول القهوة والشاي ثم ينصرفون للاستعداد لأداء صلاتي العشاء والتراويح في المساجد الممتلئة بالمصلين.

وتعتبر موائد الإفطار الجماعية تقليداً قديماً حافظ عليه السودانيون، من بينهم لؤي، الذي ينوب السودانيين بالقول: “يشارك كل منزل جيرانه وعابري السبيل ما لذ وطاب من الطعام والشراب بمحبة وتقدير كبيرين”.

ولا يتردد السودانيون في دعوة المارة وعابري السبيل لتقاسم وجبة الإفطار الرمضانية فيصرون على دعوة الجميع الذين يصادف أن من بينهم المسلم والمسيحي والوثني، وعادة ما يفعلون ذلك من أجل التواصل وإشاعة الخير بين الناس.

“المجتمع السوداني مجتمع متماسك ومتعايش مع بعضه البعض، لم تنجح الأنظمة التي تعاقبت عليه في تفكيك وحدته”، يقول عباس الحاج الأمين.

ويشير الحاج إلى أن المناسبات الدينية تعتبر أحد المظاهر الاجتماعية التي تجمع السودانيين بمختلف انتماءاتهم، مما ساهم في لعب أدوار مهمة في إعلاء قيم التكافل والتعايش بينهم.

ـــــــ ــــــــ

تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.