لم يكن في خَلَده أن تسوء الأوضاع وتأخذ في التدهور إلى هذا الحد، إلى النقطة التي يعتبرها في مضمون كلامه “اللاعودة”، وأنت تخوض معه في عمق الحديث عن ما آلت إليه السودان اليوم، يجوب بك ويأخذك معه في سلسلة زمنية مترابطة، تتنوع بين اليأس والأمل، بين الأمس واليوم، وتطلعات الغد، يحاول أن يرسم لوحة أخاذة، وفي الوقت ذاته يسرد لك ما يطمسها، يقدم لك السودان على طبق لا لون له، وأنت تشكله كما تشاء، وفجأة يتوقف، ليخبرك بأن الحرب اندلعت، وكل ما فعله السودانيون في سبيل ألا يصلون إلى هذا اليوم توقف، إنه الرابع عشر من نيسان أبريل 2023 وما بعده ليس تاريخنا، إنها الحرب، تؤرخ لبداية لسنا أصحابها!

طريقة خاصة

يعمل اليوم في غرف الطوارئ، التي تكونت بعد الحرب لسد الحاجات اليومية للمواطنين، من احتياجات طبية، وتموينية وحتى النسوية للمدنيين الموجودين في مناطق الصراع، يواصل بذلك مسيرته التي بدأها في لجان المقاومة المدنية، إنه الناشط في حقوق الإنسان عبدالرحمن شرف الدين، الذي مازال في الخرطوم، يواجه الحرب بطريقته الخاصة.

أدت الحرب إلى انتشار السلاح بطريقتين وهما التجييش عبر حملات الاستنفار الشعبية واستنفار هيئة العمليات، والتسليح الذاتي بين أوساط المواطنين، وهو ما خلق وضعاً صعباً للسكان الموجودين في مناطق المواجهات حتى الآن. 

وضع دفع عبدالرحمن للعمل على الأرض، رفقة زملاء آخرين، من استجابة للكارثة ومحاولة مقاومة ما يجري عبر توفير الحاجات اليومية للمواطنين، دوافع عدة وراء ذلك يلخصها بقوله: “بدأت بالتفكير مع الأصحاب والمقربين لي في ما يمكن أن يحدث، مَن حولي قالوا إنهم لا يريدون الخروج، ويودون أن يقدموا شيئاً، وفعلاً بدأنا نحاول، وبدأت الناس تفكر في كيفية تلبية الاحتياجات الناقصة، وجاءت فكرة (غرف الطوارئ) من اليوم الثاني ولكن التنفيذ في منطقتنا كان بعد فترة. “

الرجل الذي انتهى به الأمر في مدينة الخرطوم بعد ستة أشهر من اندلاع الحرب، لم يكن يفكر في البقاء، بل عاد إليها من “عطبرة”؛ ليحضر بعض نواقص مشروعه الخاص، وحالت الحرب بينه وبين ذلك، “لا حيلة من ذلك ولا مفر”، هكذا يعبر عما آل إليه، ويضيف في توصيفه لما يجري حوله: “الوضع الراهن ضرب وتكسير ونهب للبيوت، وضع مؤلم نفسياً، نحمل ما هو فوق طاقتنا، الحقيقة أننا لا نستطيع فعل شيء”. 

أعمال مختلفة

وضع لم يثنه عن مواصلة جهوده، ولم يمنعه من الاستمرار فيما بدأه، فإضافة إلى جهوده على الأرض، يقوم أيضًا ببعض الأعمال التي يوثق من خلالها قصصاً للحرب، إضافة إلى بعض الأنشطة الثقافية، كذلك تنظيم برامج للأطفال وتدريسهم، وافتتاح مكتبة قراءة متاحة للجميع، وكللت جهوده بافتتاح مطبخ غرفة الطوارئ الذي يصفه بأنه مثل نقلة كبيرة في جهوده أثناء الحرب، “كنا نقدم الوجبات للمواطنين، وكان آمنًا بالنسبة لنا صغارًا وكبارً”، يقول عبدالرحمن.  

قاد الاستقطاب السياسي الحاد بين الفاعلين في السودان خطاب التجييش ليكون في صدارة المشهد، وأصبح النقاش حوله هو الحائز على مساحة أكبر في يوميات السودانيين، ولم يكن عبدالرحمن وأصدقاؤه استثناءً من ذلك، لكنهم اتفقوا في أحد صباحات ما قبل الخامس عشر من نيسان/ أبريل 2023 بأنهم لن يتسلحوا حتى في حال كانت هناك دعوة للاستنفار؛ “لأن هذه مهمة الجيش ويجب عليه حمايتنا ولأنه يأخذ من ميزانية الدولة من أجل ذلك، لا أن يصبح المواطن وقودًا للحرب، هذا ما خلص إليه عبدالرحمن وأصدقاؤه، وعليه اتفقوا.

رفضٌ له أسبابه

يرفض عبد الرحمن التسليح على المستوى الشخصي، وله أسبابه التي تدفعه لاتخاذ هذا الموقف، أسباب يلخصها في أنه لا يريد البلاد أن تنجرف لحرب أهلية يقتل فيها الناس بعضهم البعض على لا شيء، كما أنه لا يريد أن يكون طرفًا في الحرب، ويستشهد في حديثه بما حدث في مدينة الكلاكلة القبة، حيث سلّح الجيش المواطنين ولم يحمهم، وتركهم يواجهون مصيرهم في مواجهة مع قوات الدعم السريع، وهنا السلاح لم يحمهم بل عرضهم للخطر لدرجة أنهم قطعوا البحر بالمراكب هرباً من الموت. 

هذه التجربة ذكرته بأشخاص تسلحوا وهم في مقتبل العمر، كان سنهم صغيرًا، وعاد البعض اليوم ليقولوا إذا فتح باب الاستنفار فإنهم سيستنفرون، يستنسخون  ما حدث في حرب الجنوب عندما كنا أطفالاً، وكانوا آنذاك يخطفون الشباب من الشوارع ويذهبون بهم ليحاربوا مكرهين، ويقال لهم بأن هذا جهاد ، استخدموهم استخدامًا سيئًا، ولم يعاملوا معاملة  جنودهم، كانوا يستكشفون بهم أماكن  الألغام  واتجاه الرصاص، لو ذهب الآن  أحدهم ليحارب معهم وجلس  في خندق لن يلحقوه بلقمة، وسيتركونه يواجه مصيره بنفسه، حتى إذا  أكل من جثة أخيه الميت ولن ينقذوه.

عن دراية يوصف عبدالرحمن الحال، ويرفض مطلقًا حمل السلاح من ذاته أو المدنيين؛ لأنه وبحسب قوله يوجد جيش وهذه مهمته.

“نحن في وضع سيئ، ولكن هنالك مرحلة أسوأ وهي أن يحارب الكل بعضه البعض، ولا نريد الوصول لهذه المرحلة.”، هذا ما يتمناه عبدالرحمن اليوم في سبيل أن يبقى بصيص أمل يمكّن السودانيين من استعادة بلدهم الذي صادرته الحرب، وتصدرت واجهته الجميلة أصوات المدافع وأزيز الرصاص، وبات السلاح المنفلت عنوانًا للمرحلة التي يدفع ثمنها السودانيون، لا غيرهم، ومنهم عبدالرحمن الذي آثر البقاء ليقدم شيئًا لأولئك الذين لم يتمكنوا من الفرار، وذلك ما يمليه واجبه الوطني وضميره السوداني، كما يقول.

تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.