أن تتحول من ناقل للقصة إلى القصة ذاتها يعني أنك عرضت نفسك لكل المخاطر، وعشت تفاصيل العامة الذين كنت تراقبهم عن كثب لتكتفي بكتابة ما يجري لهم، ثم تعيد هذا كروتين اعتدته لأنك صحفي.. سردية للهرب من جحيم الحرب تحكى هنا، ممزوجة بالشوق المقسوم بين بلدين، يحتويه سؤال: متى الملتقى؟

يصحو الصحفي السوداني «ع.ب» يوميًا، منذ حزيران/ يونيو 2023، على صيحات العابرين وأبواق حافلات المواصلات في الصباح الباكر، بأحد الأحياء الشعبية في العاصمة الكينية نيروبي.

تأتي هذه المحادثات باللغة السواحلية التي حصد منها العديد من الكلمات المفتاحية، بعد أكثر من خمسة أشهر قضاها في نيروبي، كإشارة لفتح نافذة غرفته المطلة على الشارع الرئيسي لمشاهدة العالم الجديد الذي وجد فيه نفسه بعد اندلاع الحرب في بلاده السودان.

ثقافة الحي الشعبي

لكن المفارقة، التي يعيشها «ع.ب»، في الحي الشعبي بنيروبي ليست جذرية من ناحية السياق، فباستثناء اللغتين الانجليزية والسواحلية، وتبديل الوجوه وإزاحة بعض المعالم أو حجبها، يمكن القول إنه يعيش في نفس ثقافة الحي الشعبي في مدينة أم درمان الذي فرّ منه في آيار/ مايو 2023 هو وعائلته الصغيرة؛ فالضجيج في الحالتين، هو نفس الثقافة السائدة بين الحيين في العاصمتين الكينية والسودانية التي ما تزال الحرب تحرقها منذ منتصف نيسان/ أبريل 2023. 

عندما يغلق «ع.ب»، نافذته بعد تأملاته الصباحية في حيوات جيرانه والعابرين في الحي الشعبي، يعود ببساطة إلى شاشة هاتفه الذكي ليتأمل صور عائلتيه الكبيرة والصغيرة اللتين تشتت شملهما داخل وخارج البلاد.

لكنه سرعان ما يعدل عن ذلك، ويعود لتصفح أخبار السودان على موقعي فيسبوك وإكس، والمواقع العالمية الأخرى، لكن كل الأخبار ليست كافية لجعل الحياة ذات معنى، بل هي مشاهد آتية من الجحيم تتراءى له.

ليس لـ«ع.ب»، الكثير من مصادر الدخل؛ فمع اندلاع الحرب في بلاده، فقد المئات من زملائه عملهم، في خضم شبه انهيار لقطاع الصحافة والإعلام. فهو الآن يعمل كصحفي مستقل ومحرر لأحد المواقع الإلكترونية التي لا تزال تعمل بوتيرة متقطعة.   

تلك الأخبار الجحيمية التي تأتي من السودان، تمثل مصدر رزقه، فإذا ما قرر تجنبها ليعيش في سلام نسبي، فلن يكون بمقدوره إطعام وتأمين ثمن الإيجار لعائلته الصغيرة المكونة من زوجته وطفليه، الذين فروا إلى العاصمة المصرية القاهرة منذ أواخر آيار/ مايو 2023، ولن يكون بمقدوره حتى إطعام نفسه، وتسديد ثمن السكن المشترك في حيه الشعبي الجديد بالعاصمة نيروبي.

الصحو المفزع

بالعودة إلى الوراء، كان الصحو الأشد فزعًا بالنسبة لـ«ع.ب» صباح السبت الخامس عشر من نيسان/ أبريل الماضي، على وقع اشتباكات بين الجيش وقوات «الدعم السريع» شبه العسكرية، بعد أسابيع من توترات وحشود عسكرية للجانبين.

يعيد هذا الصباح إلى أذهانه الثالث من حزيران/ يونيو 2019، عندما تم فض اعتصام القيادة العامة بالعاصمة السودانية الخرطوم، حيث قتل العشرات، لكن صباح الحرب التي دخلت شهرها السادس، كان أشد وطأة بالنسبة له في مدينته التي تحتضن حوالي عشرة ملايين نسمة.

بالكاد صدق «ع.ب» حقيقة اندلاع الحرب في بلده، رغم أنه من الصحفيين المطلعين على تطورات الصراع بين طرفي القتال والحرب الاستخباراتية الدائرة بينهما على مدى الفترة الانتقالية، لكن هذا السيناريو وقع، وبالنسبة لملايين السودانيين، على رأسهم  غالبية الصحفيين، لا يمتلكون أرصدة بنكية أو سيارات، أو أموال للطوارئ، فهو كأنه يعيش رزق اليوم باليوم.  

دارت اشتباكات عنيفة صباح الحرب، بالقرب من منزل الصحفي «ع.ب» عندما حاولت قوات «الدعم السريع» السيطرة على مقار الجيش الرئيسية في مدينة أم درمان، كان أمامه على وقع أصوات الرصاص القوية وأزيز الطائرات تطمين طفليه بأن لا شيء يحدث، والإجابة على تساؤل ما العمل كرب لأسرة عليه إيجاد حل وتأمين حياتها.

لم يكن كافيًا تأمين الغذاء حتى ولو لمدة شهر، رغم عدم إمكانية ذلك، فبالنسبة له الحرب مثل النار تأكل بعضها، منذها وحتى التاسع عشر من آيار/ مايو يوم مغادرته منزله بأم درمان، كان يعمل «ع.ب» على تأمين خروج آمن لعائلته والذي يكلف أموالًا طائلة.

لحسن الحظ، تمكن «ع.ب» الاستدانة من رب عمله مبلغًا ماليًا يكفي للوصول برًا إلى الجارة الشمالية مصر. أيضًا حالفه الحظ مرةً أخرى، كون الطريق وقتها إلى الولاية الشمالية ومنها إلى المعابر البرية آمنًا نسبيًا، حيث يتجمع المسافرون أمام الشارع الرئيسي للحي وتأتي الحافلة لنقلهم إلى وجهاتهم.

قرار مستعجل

صباح مغادرة المنزل، في التاسع عشر من آيار/ مايو 2023،  بكل ما احتوى من ذكريات ومقتنيات إلا القليل الذي حُمِل على عجالة، كان «ع.ب» قد اتفق مع زوجته بأنه سيبقى لأجل العمل وتأمين المال لهم. 

لكن لسبب غامض، وعلى عجالة من أمره، تغير قرار «ع.ب» بالمغادرة مع عائلته رغم عدم إمكانية سفره معهم إلى مصر بسبب عقبات التأشيرة بالنسبة للرجال، كان لا يعرف إلى أين هو ذاهب تحديدًا، ومع ذلك يلم في أغراض محدودة في حقيبته المحمولة على الظهر والتي حوت بعض الملابس وحاسوبه المحمول.

خريطة تنقل الصحفي ع.ب أثناء هروبه من الحرب

من أم درمان إلى القاهرة ومنها إلى نيروبي – رسم ميدو كاجونكا

وصلت الحافلة بأمان إلى محطة سوق ليبيا غربي مدينة أم درمان، حيث كانت تنتشر قوات «الدعم السريع»، راجلين وعلى متن سيارات ودراجات نارية، يحملون على أكتافهم بنادق قنص آلية.  فيما كانت الحياة في السوق عادية، بيعًا وشراءً، رغم تفشي حمل السلاح الأبيض بالنسبة للمدنيين، كل ذلك إذا أحجمت النظر إلى المشاهد العسكرية وبنادق القنص الآلية.

حانت لحظة الوداع، أو الشتات، على بعد حوالي 400 كلم شمالي مدينة أم درمان، عندما فارقت عائلتي هناك، وسط بكاء طفلي الأصغر وتساؤل شقيقه الأكبر: «إلى أين ذاهب يا بابا». ليس ثمة إجابة بطبيعة الحال، قلت وداعًا فقط.

المفارقة، أن نقطة الشتات بينه وبين عائلته كانت منطقة يطلق عليها اسم «الملتقى»، حيث توجه شرقًا نحو مدينة مروي التي انطلقت منها شرارة الحرب الحقيقية، في ما مضت عائلته شمالًا، كأنها تتوسم رواية الكاتب السوداني الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال». بالطبع صالح كان حاضرًا، فقريته “كرمكول” كانت على مقربة منّا، نحن المتجهون شرقًا أو شمالًا، إذ شكلت ملتقىً آخر للشتات.

«لم أرَ عائلتي بعد، منذها، وأنا أخلق موسم هجرتي الخاص، إلى شرق أفريقيا، محتقبًا حقيبتي على ظهري، وأوزار الحرب»، يختتم الصحفي «ع.ب» قصته التي ما تزال مفتوحة النهايات.

لم تنتهِ القصة بعد، كان عليه المرور بنقاط التفتيش، من مروي وصولًا إلى عطبرة، بورتسودان ومدينة ود مدني، كخاتمة لرحلة هروبه من الحرب في أم درمان.

 

تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.