تعد السودان دولة زراعية بامتياز، فطبيعتها وخصوبة أراضيها الشاسعة، وتعدد محاصيلها، وارتباط أهاليها بالأرض، وانتماؤهم لها، جعلها في صدارة الدول المهتمة بالزراعة، حتى قيل بأنها سلة غذاء العالم.

تتمتع البلاد بمناخات متعددة، وأقاليم مختلفة، يحدها نيلان من الوسط والعديد من الوديان الفرعية في أقاليم كدارفور، والنيل الأزرق، وجنوب كردفان ومن شرقها البحر الأحمر، يضاف إلى ذلك وفرة المياه السطحية والجوفية التي تصطدم بشح الإمكانيات المادية والبشرية.

ويحاول المزارعون السودانيون الاستفادة من أرضهم قدر استطاعتهم رغم صعوبة وصولهم إلى بعضها في ظل الحروب الداخلية التي تندلع من وقت لآخر، وينعكس ذلك على الإنتاج الزراعي الذي مازال يقاوم لسد احتياجات السودانيين ويصدر ما يفيض عن ذلك. 

لكن الحرب التي اندلعت منتصف نيسان/ أبريل 2023 أثرت تأثيراً واضحاً على الزراعة في مناطق جنوب كردفان ودارفور التي تحولت أراضيها إلى يابسة رغم هطول الأمطار هذا العام، وذلك لما خلفته الحرب من نزوح وتهجير لسكان هذه المناطق الزراعية. 

حياة جديدة

على الضفة الغربية لنهر النيل الأزرق، جنوبي شرق السودان، حظيت مدينة الدَمازِين بشيء من الأمن النسبي، مما جعل محمد عيسى، 23 عاماً، الذي قرر الهجرة مع أسرته من منطقة كَسَلا باحثين عن الحياة أن يمتهن الزراعة؛ إذ نقل حياته إلى النيل الأزرق عام 2004، وقرر هناك العمل في مشاريع أبيه الزراعية بعد تخرجه من جامعة السودان رغم دراسته لنظم المعلومات الإدارية عام 2020.

 يعمل محمد في منطقة ودابوك التي تبلغ مساحتها ثلاثين ألف فدان، وهي ذات طبيعة تتسم بالزراعة الموسمية المطرية، وتنتج العديد من المحاصيل التي تعد من أهم المواد الغذائية السودانية للاستهلاك والتصدير كالذرة، والسمسم، والأرز.                           

يوفر المشروع الزراعي الذي يرأسه محمد فرص عمل لعدد 32 عاملاً، بإنتاج متعدد من المحاصيل يزيد عن ثلاثة آلاف جوال ذرة، وثلاثة ألف قنطار سمسم، وسبعمئة قنطار قُطن سنويا.

وتعد ولاية النيل الأزق اليوم من أكثر المناطق أمناً في البلاد منذ اندلاع الحرب، على الرغم من أنها تعتبر منطقة نزاعات منذ عام 2011، وشملت الحرب الدائرة معظم ولايات السودان الزراعية كدارفور والشمالية وجنوب كردفان التي تلعب دوراً في التنمية الريفية؛ لأنها تربط بين الزراعة والتنمية حسب ما جاء في مجلة سنّار 1947 إلى 2012، وهو ما دفع محمد للقدوم إليها كي يتمكن من العمل في الزراعة وفقًا للإمكانيات المتاحة، كما يقول.                    

مواجهة التحديات                                                                        

لم يستسلم محمد رغم تحديات هذا العام من عدم الاستقرار الأمني والنفسي للمزارعين، فقرر زراعة أرضه، واستثمار لحظات الأمن هذه للحاق بموسم الزراعة، مواجهًا بذلك تحديات أخرى كالسيولة المالية اللازمة لصيانة المولدات الزراعية، وأجرة العمال، وكلف الوقود التي ازدادت أضعافاً تزامناً مع الحرب.  لجأ محمد للبنك الزراعي في الدَمازِين، ولكن البنك عجز عن تمويل الزراعة لهذا الموسم؛ بسبب إلزامه للمزارعين بأن يكون الدفع (قطن) خام، ويكون في مدينة رَبَكْ بالنيل الأبيض، جنوبي السودان، مما تسبب في حرق معظم المنتج جراء ترحيله. 

ثم طلب منهم البنك مرة أخرى التسليم في مدينة مدني، وسط البلاد، والتي طلبت منهم خطابات تأمين، مما اضطر بعض التجار بيع القطن بالخسارة من 45 – 21 ألف جنيه، وذلك نتيجة لضغط أصحاب المركبات الذين تم الدفع لهم طيلة توقفهم في مدينة مدني لمدة تجاوزت الأسبوعين.

يبيع المزارعون السودانيون محصولهم بثمن بخس لتوفير سيولة مالية

يبيع المزارعون السودانيون محصولهم بثمن بخس لتوفير سيولة مالية – رسم ميدو كاجونكا

وضع دفع المزارعين لبيع محصولهم في السوق للحصول على بعض السيولة التي لم تكن كافية سوى لزراعة نصف المشروع السنوي، إذ تمكن محمد من توفير أجرة 16 عاملاً بدلاً عن 32، وزراعة 1500 فدان بدلاً عن 3000، بالإضافة إلى المحاصيل التي تم توزيعها من منظمة الفاو. 

 على حافة الخطر

أهملت الحكومات المتعاقبة إلى حد كبير قطاع الزراعة على الرغم من أنه أكبر قطاع توظيف في السودان ويساهم بنحو 56 في المئة من إجمالي الصادرات، بحسب ما أورده بنك السودان المركزي عام 2020. كما أن القطاع يتمتع بإمكانات عالية للتصدي لتحديين من أكبر التحديات التي يواجهها السودان اليوم، وهما انعدام الأمن الغذائي، وتحسين سبل عيش المزارعين أصحاب الحيازات الصغيرة، الذين لهم دور كبير نظراً لارتفاع وتضخم أسعار المواد الغذائية وصعوبة الحصول عليها بسبب الحرب.                                                                                         

أنهى محمد أيام الزراعة، وينتظر الحصاد مع تخوفات كثيرة تنتابه نظراً لواقع البلاد، وغياب شركات تأمين الموسم لهذا العام مع تساؤلات كثيرة تشغل باله من وقت لآخر: كيف سيكون الحصاد؟ وهل يمكن لشرارة الحرب أن تنتقل إلى النيل الأزرق؟ وحتى إذا تم الحصاد بنجاح، ماذا عن التسويق؟ 

ونتيجة لما آل إليه الوضع لا توجد أسواق بتلك القدرة الشرائية، نتيجة ضعف توفر السيولة النقدية في أيدي المواطنين، بعد أن توقفت مؤسسات الدولة، والبنوك عن العمل، وتوقف صرف مرتبات الموظفين، وهو ما قد يؤثر على زراعة العام المقبل ومستقبل المشاريع الزراعية بصفة عامة، وفقًا لمحمد.                                                      

ومن المتوقع أن يشهد السودان تدهورًا اقتصادياً سريعاً إذا استمرت الحرب بهذه الوتيرة وطال أمدها، وسينعكس ذلك على القطاع الزراعي الذي تأثر حتى الآن رغم كثرة الأمطار ونجاح الموسم إلا إن الإنتاج سيكون نصف المواسم المعتادة فقد  تقلص حجم الزراعة بصورة عامة في النيل الأزرق من 200 ألف فدان إلى ما يقارب 150 ألف فدان، وهو ما قد يكفي فقط سكان الولاية مع توفير بعضٍ من حاجة باقي الولايات التي مازالت في حالة حرب، ولم يستطع سكانها الزراعة.                                                                                                                 

تحديات وصعوبات عدة تواجه المزارعين السودانيين، وتهدد القطاع الحيوي بالتوقف، يلقي محمد باللوم على الحرب ومن أشعلها، ويتمنى أن تتوقف سريعًا حتى لا تتكرر مأساة العام الماضي إذ بقي 60% من المحصول في الأرض بسبب الظروف الأمنية التي واجهت المزارعين، يعبر عنها محمد بألم ومرارة: “كانت سنة مخيبة لآمالنا، لا نتمنى أن تعود، ونأمل أن تكون الزراعة بمنأى عن الحرب لأنها تعني الكثير للسودانيين”.

تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.