ليس سهلًا أن تترك كل شيء وراءك، وتفر إلى المجهول، لمجرد الهرب من جحيم حرب لا ناقة لك فيها ولا جمل، ولربما يتفق معك السودانيون جميعهم -من فر أو بقي- بأنها ليست حربهم، لكنهم مثلك، عليهم أن يواجهوها كل بطريقته، تمامًا كما فعلت معزّة، في رحلتها التي لم تنتهِ بعد، وهي تحكيها لنا.

ربما تكون هذه آخر محطة حتى الآن في رحلة البحث عن الاستقرار، أنا جالسة في الشرفة، وبيدي ورقة بيضاء، وقلم رصاص؛ أستعيد بهما ذكريات وطني الذي تركته خلفي يعاني ويلات الحروب التي مزقته، وفرقتنا بين الداخل والخارج، وآخرون يقفون في المنتصف في صف الجوازات، أو ينتظرون تأشيرة دخول إلى بلد ما!

هنا، أسرد قصتي؛ محاولةً تخفيف عبء أتجول به منذ ذلك السبت الطويل الذي لم تشرق شمس يومه التالي في بلادي بعد. 

إنه يوم الخامس من آذار/ مايو 2023، بعد عشرين يوماً على اندلاع الحرب في العاصمة الخرطوم، خرجت من منزلي بأم درمان وأنا أحمل معي ذكرياتي وأحلامي؛ على أمل العودة ذات يوم .

إنها رحلة غير محسوبة العواقب، ولا يهم ما سيحدث فيها، فالوقائع والمشاعر متداخلة ولا أهم من ذلك سوى الفرار؛ قبل أن أصبح في نطاق ضحايا الحرب، وأتوقف للأبد!

قرارات صعبة

كانت مدينة شَنْدِي بولاية نهر النيل شمالي السودان الوجهة الأولى لي؛ بحثاً عن مكان آمن بعيدًا عن أصوات الرصاص، ودخان المدافع. منها بدأت رحلة البحث عن الاستقرار، وعن منزل كمنزلي، رغم استحالة الأمر؛ فهنا كل شيء مختلف!

أصبحت أتجول هنا وهناك، ولكن طيبة أهالي شَنْدِي، وعظمة إكرامهم للضيوف شدت انتباهي؛ فرغم أني كنت غريبة إلا أنني شعرت بأنهم أهلي، وكأني في داري، وأسعدني وجودي معهم، حتى أن قرار الانتقال إلى منطقة أخرى كان صعباً بعد شهر أمضيته فيها، وحانت المغادرة التي لابد منها، وهذه المرة إلى بورتسودان، شمالي شرق البلاد. 

لم تكن بورتسودان كما توقعت؛ فالطقس كان حاراً؛ لأن المنطقة تتميز بمناخ البحر الأبيض المتوسط المعروف بحرارة وجفاف صيفه وبرودة شتائه المطير، ولكن تباين أهل بورتسودان الثقافي، وتمركز عدد من الفنانين فيها، إضافة إلى توفر مراكز الفنون، خفف من حرها قليلاً؛ فالمدينة أصبحت وجهة لعدد من الفنانين السودانيين مما خلق أجواء إبداعية محفزة، وبيئة تعج بالفن من مصورين وعازفين ورسامين.

ميناء بورتسودان عند الغروب

ميناء بورتسودان عند الغروب بعدسة معزة صالح

بقائي في بورتسودان أصبح صعباً؛ لعدم توفر عمل أو مصدر للدخل طوال أسبوعين من الانتظار؛ ما دفعني للبحث عن منطقة أخرى. بدأت أبحث من جديد بين الأهل والأصدقاء في باقي الولايات، ولكن محاولاتي لم تثمر. 

خطوة للتغيّر

غادرت بورتسودان إلى شرقي السودان، تحديدًا ولاية القَضَارِف، دون أمل في الحصول على ما أريد؛ فكل الظروف توحي بذلك، ولكن بعد وصولي كان المناخ خريفيًا ممطرا، أنساني ما كنت أعانيه، وتأكدت كم أن للطقس دورًا كبيرًا في خلق الإبداع والإلهام؛ فقد ساعدني كثيراً في القدرة على الاسترخاء، ولأستعيد طاقتي وقدرتي على التفكير الإيجابي وخلق واقع أفضل بأبسط مقومات الحياة.

 مكثت في القَضَارِف شهرين، وفيها بدأت بمشروع صغير، تعليقات للأشجار مصنوعة يدويًا من خيوط الكورشيه -خيوط صوفية تستخدم للحياكة-، كنت أستغرق لصنع التعليقة الواحدة من نصف ساعة إلى ساعة ونصف، وفقًا للشكل وعدد العُقد، دخله لا يكاد يذكر، لكني قمت بإبراز مهاراتي في الأشغال اليدوية،  المهم أنني شعرت بلذة النجاح في تلك الظروف، وشعرت بالفخر نظير ما قمت به. 

غيرت هذه الخطوة نظرتي للحياة، وللظروف التي نمر بها، على أنها فرصة لتوظيف قدرات وجدت بنا قمنا بتجاهلها أو أننا لم نظهرها بالقدر المطلوب، فما كان للحياة إلا أن ترغمنا بطريقة أو بأخرى لتوظيفها، فالسعي للتغيّر يُحدث التغيير (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى). 

كوخ مضيء بولاية القضارف

كوخ مضيء بولاية القضارف بعدسة معزة صالح

كانت القَضَارِف محطتي الأخيرة داخليًا، غادرتها إلى العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، ومنها انتقلت إلى نيروبي في كينيا كآخر محطات البحث عن الاستقرار، ولكن مازال ينقصنا الكثير رغم الوفرة، وحتى كتابتي لهذه الأحرف وأنا خارج السودان أنتظر أن تبرد آخر رصاصة في موطني الذي أحمله معي أينما ذهبت على أمل العودة؛ لإعماره وإتمام ما بدأت، وحتى نلتقي مع من نحب سالمين آمنين، نستعيد ذكرياتنا الجميلة، وجلساتنا المسائية ذات الطابع السوداني الفريد.

تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.