عقب سنوات دراسية متقطعة بدأت قبل انطلاق الثورة السودانية في العام 2018، واستمرت خلال فترة الإغلاق التي تسببت فيها جائحة كورونا، ثم الاضطرابات السياسية التي شهدتها البلاد خلال الأعوام الماضية، اشتعلت الحرب في السودان منتصف نيسان/ أبريل 2023 لتبدد أحلام آلاف الطلاب الجامعيين بالتخرج خلال أشهر، وبدء مرحلة جديدة من حياتهم، وهو سيناريو لم يمر عليهم في أسوأ كوابيسهم.

فترة عصيبة

اليأس، وتلاشي الأمل، والخوف من المجهول، مشاعر مختلطة تسيطر على الطالب مصعب خليل، 26 عامًا، فهو بخلاف أنه طالب جامعي من ذوي الإعاقة البصرية، كذلك أب لطفلين وينتظر مولوداً جديداً، أضافت الحرب له عبئاً آخر وهو الغربة عن الوطن دون إرادته، والقصة كما سردها مصعب يتداخل فيها الواقع مع الخيال والممكن مع المستحيل بيد أن بعدها الإنساني كان الأكثر وضوحاً.

بدأ مصعب حياته الجامعية في قسم علم النفس، بكلية الآداب، جامعة النيلين بالخرطوم في العام 2018، عقب دخوله الجامعة انطلقت الثورة في كانون الأول/ ديسمبر، ليتم إغلاق جميع الجامعات في وقت كان يحمل الكثير من الآمال والطموحات لحياته الجامعية، لكنه صبر حتى عدت تلك الفترة العصيبة، كما يصفها، ومما خفف عليه قساوتها هو تفاعله مع الثورة وما بثته فيه من أمل.

تلى الإغلاق تداعيات الثورة بسبب جائحة كورونا مطلع العام 2020 وتلك كانت فترة أشد قسوة عليه من سابقتها، لكنه احتملها، وعاد إليه الأمل بمواصلة الدراسة رغم وجود بعض الاحتجاجات الطلابية المحدودة التي كان لها تأثير سلبي على سير المحاضرات، ثم واصل مصعب السنة الدراسية الثالثة ليجتاز بعدها الامتحان المؤهل للسنة الرابعة، وهى كانت بالنسبة له سنة دراسية مهمة لأنها تتضمن الجانب التطبيقي والتدريب داخل مستشفى الطب النفسي، وكان ذلك بمثابة حلم آخر انتظره طويلا.

حلم بددته أصوات الرصاص خلال إجازة الانتقال من السنة الثالثة إلى الرابعة عندما استيقظ ذات صباح على حرب مشتعلة، ورغم ذلك لم يتلاشَ أمل مصعب الذي كان يظن أن الحرب لن يطول أمدها وسيعود إلى قاعات الدراسة قريبا.

أعباء جديدة

مر مصعب بالعديد من الأحداث منذ التحاقه بالجامعة، ففي العام الدراسي الأول 2018، وعندما اشتعلت الثورة وما تلاها من إغلاق للجامعات، تمكن من الزواج وذلك كان أحد إنجازاته المهمة في تلك الفترة، كما يقول؛ فالزواج وتكوين أسرة كان بالنسبة له أحد الأحلام التي تمكن من تحقيقها، ليقتحم على إثره مجال العمل في السوق عبر توزيع الحلويات حتى فتحت الجامعة أبوابها من جديد وعاد لإكمال دراسته.

أصبح لدى مصعب أعباء أسرته الجديدة، بجانب تحديات المواظبة على الدراسة والحرص على عدم تراجع مستواه الأكاديمي ونال في ذلك التوفيق، وخلال إغلاق جائحة كورونا كان مع أسرته وأمامه تحدي عدم وجود عمل بجانب توقف الدراسة، وهذا بالنسبة له كصاحب إعاقة بصرية كان تحدياً كبيراً لم يعتد عليه، تحدٍ قاده لتوصيف ما يريده بالقول: “نحن -كشريحة في المجتمع- لدينا شعور بأن الشهادة الجامعية هي التي تمنح القيمة في العمل، ليس كالأعمال الاضطرارية التي لا حاجة لها بما يثبت أهليتك، سوى أن تعمل، وقد جربت ذلك بالعمل في مهن اضطرارية”. استنتاج أوصله إليه عالمنا الحاضر الذي يتحدث عن الشهادات والقدرات كأمر أساسي، حسب قوله.

بصيص أمل

بعد انتهاء جائحة كورونا وانتقاله للسنة الدراسية الثالثة عاد إلى مصعب الأمل بإكمال دراسته وحينها كانت زوجته تدعمه في ذلك، وخلال إجازة الانتقال إلى السنة الرابعة كانوا كدفعة يقولون لأساتذتهم ليتكم لغيتم هذه الإجازة، وبالفعل خططوا للضغط من أجل قطع الإجازة ومواصلة الدراسة عقب عطلة عيد الفطر الذي سبقته الحرب بأيام، وفجأة انقلب كل شيء رأساً على عقب واشتعلت الحرب، ليتملك مصعب وكل زملائه وزميلاته الشعور باليأس، وأن الجامعة صارت مشكلة في حياتهم، وأن مصيرهم هو عدم إكمال دراستهم، بل إن بعضهم أصبح يرى أن أصحاب المهن الاضطرارية أفضل حالاً منهم لاعتمادهم على أنفسهم، بينما هم ظلوا لسنوات يطلبون مصاريفهم من آبائهم وأسرهم لتذهب كل تلك التضحيات هباء بسبب الحرب.

مصعب قضى جميع الأشهر الأولى من الحرب في الخرطوم على أمل أن تتوقف غداً أو بعد غد ليعود لإكمال دراسته، لكن عندما فقد الأمل بتوقف الحرب سافر إلى سوريا التي يتواجد بها حالياً وهي موطن زوجته لينخرط هناك في رحلة بحث عن عمل، وعندما طلب منه زملاؤه إكمال دراسته في سوريا رفض هذا المقترح خشية أن  يتكرر معه ما حدث في السودان، وأن تضيع 4 سنوات أخرى من عمره، ويرى أنه حتى لو أتيحت له فرصة إكمال دراسته في أوروبا، لن يكمل هناك نتيجة للخوف من تكرار ما حدث له، ربما أمله الوحيد هو “أن تتوقف الحرب في السودان ليعود ويكمل دراسته”، كما يقول، ويستدرك: “ذلك حلم يبدو صعب المنال”.

أمل مصعب الوحيد هو “أن تتوقف الحرب في السودان ليعود ويكمل دراسته”، و”ذلك حلم يبدو صعب المنال”، كما يقول.

تراجع غير محمود

كثيرة هي المؤشرات التي أدت إلى تراجع العملية التعليمية في السودان، فخلال السنوات الخمس الماضية شهدت العديد من التغييرات بسبب الأوضاع السياسية التي نتج عنها العديد من المشكلات كتراكم الدفعات نتيجة عدم استمرار العام الدراسي، هذا ما قاله الدكتور محمد سعيد عمر، أستاذ الإعلام بالجامعات السودانية.

وضرب عمر مثلاً بإحدى دفعات طلاب كلية العلوم الإدارية بجامعة الخرطوم، والتي مر عليها نحو ست سنوات، ولم تكمل حتى اليوم، حيث صادفت بدايتها وجود إضراب داخل الكلية لفترة طويلة، ثم انطلقت الثورة في العام 2018، وأعقبت ذلك الاضطرابات السياسية في البلاد إلى أن اشتعلت الحرب.

توقف قسري للتعليم دفع ثمنه الطلاب السودانيون – رسم ميدو كاجونكا

أوضاع تسببت في تراكم المحاضرات، ما دفع إدارات الجامعات للطلب من الأساتذة تقليص الفصل الدراسي إلى 8 أسابيع بدلاً عن 14 أسبوعاً، إضافة لذلك، يرى عمر “أن الأوضاع الاقتصادية وتأثيرها على الأسر دفعت بعض الطلاب إلى اللجوء للعمل لتوفير احتياجاتهم، وآخرين سافروا إلى خارج البلاد، لأن الدراسة الجامعية أصبحت لا تلبي تطلعاتهم، ولا يختلف الحال كثيرًا بالنسبة للأساتذة”.

ويبلغ عدد مؤسسات التعليم العالي في السودان 155 جامعة، منها 39 جامعة حكومية، منها 8 جامعات بالعاصمة الخرطوم، بالإضافة إلى 116 مؤسسة تعليم عالي خاصة، منها 17 جامعة و65 كلية بالخرطوم أهلية وأجنبية.

ومطلع آب/ أغسطس 2023 أصدرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في السودان قراراً بإيقاف الدراسة وكل الأنشطة الأكاديمية بمؤسسات التعليم العالي الحكومي والخاص والأهلي.

وبحسب الوزارة فإن التخريب الناتج عن الحرب طال كل مؤسسات التعليم العالي بالعاصمة الخرطوم وعدد من الولايات، حيث تأثرت كلياً أو جزئياً 104 من مؤسسات التعليم العالي الحكومي والخاص والمراكز البحثية في البلاد.

تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.