(CC) موقع الأضواء | معدل من  svgsilh.com

في صراع مع هوياتهم، ما زال بعض السودانيين يلجؤون إلى تبييض بشرتهم للشعور بالانتماء.

كانت الهوية دوماً قضية مثيرة للجدال في السودان. فقد مورست سياسات العزل العنصري وفرضت لوائح تشغيل عنصرية في مؤسسات القطاعين العام والخاص على السواء.

في بعض المجتمعات المحلية، يتم تفضيل لون البشرة الفاتح، الشعر الناعم، وبعض الملامح الأخرى. وبالنسبة لهؤلاء الذين لا يستوفون هذه الملامح والصفات، محاولاتهم للاندماج في مجتمعاتهم قد تأخذ أشكالاً متطرفة. وبينما تحتدم هذا الصراع الداخلي والمجتمعي، ترتفع الرغبة في الاندماج، مما يؤدي بالبعض إلى تعريض صحتهم للخطر، وتكبد نفقات باهظة من أجل الوصول إلى المظهر الأكثر قبولا في المجتمع.

فتبييض البشرة على سبيل المثال متفش في السودان. بدأت هذه الممارسة من قبل النساء والفتيات وسرعان ما التحق بعض الرجال أيضا بهذه بها مستخدمين مستحضرات تجميل ومستحضرات كيميائية مثل الإبر الباهظة الثمن التي تغير لون البشرة، والتي هي في الغالب محظورة طبيا.

من بين 348 من الإناث الخريجات اللواتي شملهن الاستطلاع، أفادت 74.4 في المئة منهن أنهن استخدمن منتجات تبييض البشرة.

وقد أصبح تبييض البشرة عملا مدرا للأموال يرتكز على معتقدات اجتماعية خاطئة وتشجع عليه وسائل الإعلام المختلفة.

خلال دراسة أجريت في عام 2016 في جامعة الجزيرة حول استخدام منتجات تبييض البشرة على عينة من الخريجات الإناث (اللواتي تتراوح أعمارهم ما بين 16 إلى 33 عامًا)، سُئِلت الطالبات عما إذا كن قد استخدمن منتجات لتبييض البشرة خلال الأشهر الـ 12 الماضية. من بين 348 من الإناث الخريجات اللواتي شملهن الاستطلاع، أفادت 74.4 في المئة منهن أنهن استخدمن منتجات تبييض البشرة – 2.7 في المئة استخدمن الإبر، 2.4 في المئة استخدمن الحبوب، 6.30 في المئة استخدمن كريمات تبييض، و76.2 في المئة استخدمن الصابون المبيض.

البشرة الفاتحة ذات قيمة أكبر

في مراجعة قام بها الدكتور دومينيك ساغو للجمعية الدولية لعلم الأمراض الجلدية في عام 2018، خلص إلى أن “ممارسة تبييض البشرة هي قضية صحة عامة عالمية خطيرة لابد من معالجتها من خلال التدخلات المناسبة في مجال الصحة العامة”.

وتمثل أمراض الجلد الناجمة عن التبييض بالكريمات والمستحضرات ثلث الحالات المسجلة المتصلة بالبشرة في المستشفيات السودانية. وعلى الرغم من الحملات المكثفة التي قامت بها الناشطات والحركات النسائية والطالبات الجامعيات، فإن عدد هذه الحالات آخذ في الارتفاع.

“غالبية مجتمعنا السوداني يفضلون النساء ذوات البشرة البيضاء”، تقول الدكتورة أسماء جمعة، العاملة في مجال الخدمة الاجتماعية. “تمارس بعض وكالات سوق العمل سياسة العزل العنصري حيث توظف فتيات ببعض السمات، وهو ما يجعل الفتيات يعملن على تفتيح لون بشرتهن حتى يتسنى لهن فرصة الحصول على عمل جيد، بصرف النظر عن هويتهن”، تقول جمعة.

«غالبية مجتمعنا السوداني يفضلون النساء ذوات البشرة البيضاء.»

— أسماء جمعة، دكتورة عاملة في مجال الخدمة الاجتماعية

وتشير جمعة إلى أن هذا التوجه لا ينفرد به السودان فحسب، بل إنه نوع من الممارسة العالمية حيث يعمل العديد من السود في بلدان أخرى، بما في ذلك الدول المتقدمة، على تغيير لون بشرتهم، على اعتقاد منهم بأن البشرة البيضاء أكثر قيمة. وتقول إن لون بشرتها الأسود لم يعطل حياتها الطبيعية أو عملها، وحتى لو أنها ستواجه مشاكل في المستقبل، فإنها لن تغير أبدا لون بشرتها.

“هناك تحولات في أفريقيا ككل وليس فقط في السودان”، يقول أستاذ الفولكلور بعدد من الجامعات السودانية عباس الحاج الأمين. “الجسم عبارة عن لوحة لحاملها الحرية في أن يكتب عليها ما يريد. وتبييض البشرة هو أحد هذه الخيارات. في السابق، كان لدى السودان ممارسات مختلفة من هذا القبيل، مثل حقن سائل أسود في الشفاه ليبدو لونها داكنا، وعمل ندبات رمزية عميقة في الخدين، ما يترك أثار دائمة. فالهوية ليست شيئاً موروثاً ثابتاً، بل موضوعاً مكتسبا قابلاً للتغيير”، يقول الأمين.

ويذكر الأمين أن أحد الأسباب وراء تبييض البشرة هو الضغط الاجتماعي للاندماج. “في عام 2011، عندما اتجه المشهد السياسي نحو انفصال الجنوب، غيرت العديد من الفتيات الجنوبيات اللاتي بقين في السودان لون بشرتهن في محاولة للاندماج في مجتمع لا يقبل الأقليات ومنحاز للهوية العربية.”

ويذكر الأمين هنا كلمات الرئيس المخلوع عمر البشير في اجتماع عام عشية انفصال جنوب السودان عن السودان حيث قال: “لقد أصبح السودان الآن عربياً بالكامل، وسوف نطبق الشريعة بالكامل”، على نحو يساهم في الاعتقاد بأن الثقافة العربية والمظهر العربي أكثر قيمة.

عرب أم أفارقة؟

“لقد أثيرت مسألة الهوية قبل الاستقلال”، يقول الأمين. “بدأ بعض من نخبة خريجي كلية جوردون الأوائل في التشكيك في هويتهم: ’هل نحن عرب أم أفارقة؟’ لقد حاولت العديد من مدارس الفكر إيجاد إجابة لهذا السؤال، بما في ذلك المدارس العربية، والأفريقية-العربية، والعديد من المدارس الأخرى القائمة على التنوع والتي تبنت مفاهيم مماثلة لتلك التي تبنتها الحركة الشعبية لتحرير السودان في مراحلها المبكرة.”

ويقول الأمين إن غياب الإجابة قد يعزى إلى البنية الديموغرافية للمجتمع السوداني نفسه والذي يقوم على التنوع الثقافي والإثني والديني. لقد تبنى معظم الذين حاولوا الإجابة على هذا السؤال أفكارا نمطية، بما في ذلك الباحثون الذين أسسوا المدارس المذكورة أعلاه.

“بشكل أساسي، يتمتع السودان بخلفية ثقافية خصبة، وأي شخص أراد تأكيد فكرته عن هوية بعينها يجد في السودان ما يدعم نظريته، وهذا يؤكد تمتع السودان بتنوع المكونات العربية والأفريقية وغيرها من المكونات.”

«هذا يؤكد تمتع السودان بتنوع المكونات العربية والأفريقية وغيرها من المكونات.»

— عباس الحاج الأمين، أستاذ الفولكلور

ولا يزال السودان متأثرا بشدة بحركة التعريب، وقد عانت عدة مجموعات ثقافية من الإقصاء، بما في ذلك عدد من السلالات الأصلية كالنوبية والبجاوية وغيرها.

لقد فشل نظام حزب المؤتمر الوطني بقيادة البشير المخلوع في خلق بيئة ملائمة حيث يمكن لكافة الأنماط والثقافات واللغات أن تتعايش في وئام وانسجام في بلد واحد. ويقول الأمين “إن المشروع الإسلامي السياسي في السودان ربط نفسه بالعروبة، وهو خطأ فادح لأن الدين الإسلامي نفسه دين للناس كافة لا يستثني عرقاً أو جنساً”.

فمفهوم الهوية نفسه يواجه بعض المشاكل لأن مفهوم الهوية الواحدة لا وجود له. “جميعنا لدينا العديد من المكونات وليس هناك دم نقي، لأن جميع الأعراق والسلالات آخذة بالتداخل، باستثناء بعض القبائل الأفريقية التي ظلت مغلقة” يفسر الأمين، مضيفا أن “الميل الذي الملاحظ لدى النساء مؤخراً لتغيير لون بشرتهن يتلخص في الرغبة في الحصول على الهوية التي يفضلنها، وهو ليس خياراً عفوياً بل إنه خيار توجهه إيديولوجيات عديدة”.

الصور النمطية النموذجية التي تعكسها وسائل الإعلام الجماهيرية من خلال مقدمي العروض التلفزيونية والإعلانات التجارية التي تركز في الأغلب على منتجات تبييض البشرة، وفقدان الوزن، والتجميل “دفعت الفتيات على ما يبدو إلى تنمية اهتمامهن بامتلاك هذا المظهر الذي يفضله أغلب الرجال”، يقول الأمين.

عصر ما بعد الثورة


لقد أمضى العديد من الناس سنوات وهم يدعون إلى التركيز على مواضيع تتعلق بالهوية وغيرها من القضايا التي كثيراً ما يتم تجاهلها. ومع تسبب الثورة في خلق الفرصة للناس للتحدث عن قضاياهم، فمن المتوقع أن تؤدي المناقشات الدائرة حول الهوية في المستقبل إلى نتائج مثمرة.

وطوال فترة الثورة، وفي مكان الاعتصام وأثناء الاحتجاجات، نددت العديد من الشعارات التي رددها المتظاهرون بالعنصرية التي مارسها نظام حزب المؤتمر الوطني. فشعار “كل البلد دارفور” كان واحد من الشعارات التي ظل المتظاهرون يرددونه باعتباره وسيلة لإبلاغ الحكومة السابقة بأنهم لن يتسامحوا مع التمييز الذي يمارس ضد أبناء دارفور.

الثورة أكثر من عمل سياسي، حيث يراها العديد من الناس كإنجاز كبير، تمكن من رفع مستوى الوعي من خلال إحداث تغييرات في المفاهيم والآراء الاجتماعية. ومن المفهوم أن الشفاء التام من تركة حزب المؤتمر الوطني سيستغرق وقتا، ولكن يمكن اعتبار الثورة خطوة في الاتجاه الصحيح.

«من الصعب أن نحقق تغييرات حقيقية في غضون فترة وجيزة.»

— محمد جمعة، ناشط سوداني

في مقابلة مع موقع أضواء، قال محمد جمعة، وهو ناشط سوداني، أن “قضية الهوية تضرب بجذورها عميقاً في السودان، ومن الصعب أن نحقق تغييرات حقيقية في غضون فترة وجيزة خلال الفترة الانتقالية. ولكن هناك وعي بين الناس فيما يتصل بهذه القضية، والعديد منهم يطرحون هذه التساؤلات”.

ويقول جمعة إن التصدي لمسألة الهوية يؤدي إلى الحديث عن التنوع في البلاد ومقاربة الدولة في معالجته. “يتعين على الناس أن يفتحوا حوارا ونقاشا بشأن هذه القضايا، وخاصة أنها ليست جديدة وتشكل أزمة كبرى في السودان”.

هناك العديد من القضايا التي أهملت في الماضي ولابد من مناقشتها. ليس مسألة الهوية فقط، بل كذلك العديد من القضايا الأخرى، مثل الدين على سبيل المثال. ففي بلد بهذا الحجم والتنوع، يتعين على الناس أن يجدوا حلا وسطا حيث يتم تمثيل الجميع بشكل سليم”.