جرائد السودان في الخرطوم. (cc) موقع الأضواء | محمد إبراهيم | 29 يناير، 2020


يعقد الشعب السوداني آمالا وتطلعات كبيرة على الإعلام والصحافة الحرة.‬ يواجه درب إصلاح الإعلام عددا من التحديات تتمثل في تأثيرات الثورة المضادة، القوانين المقيدة للحريات الموروثة من النظام البائد، عدم وجود رؤية واضحة لإعلام ما بعد الثورة، والرقابة الذاتية.‬


طبقاً لتقرير منظمة ‘مراسلون بلا حدود’ عن حرية الإعلام في العالم، ظل السودان يحتل مراكز متدنية جداً وبلغت ذروتها في تقرير المنظمة لعام 2019 حيث احتل السودان المرتبة 175 من أصل 180 دولة شملها التقرير.‬

‫رويداً رويداً بدأ المواطن السوداني يثق في الإعلام لتنسمه لرياح الحرية إثر سقوط البشير. اتسعت مساحات الحرية بصورة أكبر بعد تشكيل الحكومة الانتقالية وإحداث تغيرات هيكلية طفيفة في مؤسسات الإعلام الحكومية.‬

‫من بين التغييرات التي طرأت منذ سقوط حكومة الإنقاذ، نص المادة 56 من الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية الذي يقول: “تكفل الدولة حرية الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى وفقا لما ينظمه القانون في مجتمع ديمقراطي.”‬

‫يقول أشرف عبد العزيز، رئيس تحرير صحيفة ‘الجريدة’، لـ ‘موقع الأضواء’ إن “الحريات الصحفية في الفترة الراهنة متاحة والوضع أفضل مما كانت عليه الصحافة إبان فترة النظام السابق، والآن يمكنك أن تكتب ضد الجميع دون خطوط حمراء أو تدخلات من قبل السلطات”.‬

‫ولكي يتم تطبيق هذه الحريات على أرض الواقع، تم تأسيس لجنة تفكيك نظام الثلاثين يونيو واسترداد الأموال المنهوبة، التي تتشكل مهامها في “حل حزب المؤتمر الوطني، حزب البشير، وحذفه من سجل التنظيمات والأحزاب السياسية، وحل كل الواجهات الحزبية والمنظمات التابعة له أو لأي شخص أو كيان يعتبر من نتائج التمكين، ومصادرة ممتلكات وأصول الحزب لصالح الحكومة. كما يحق للجنة القيام بالملاحقة القانونية ومصادرة الممتلكات لصالح الحكومة أو تحديد طريقة التصرف فيها لأي جهة حكومية، وحل النقابات والاتحادات المهنية وأصحاب العمل التي تمثل واجهات للحزب المنحل”، حسب تقرير للعربي الجديد.

‫في مطلع يناير شرعت السلطات عبر هذه اللجنة في الحجز على عدد من المؤسسات الإعلامية منها فضائية ‘الشروق’، قناة ‘طيبة’، صحيفتي ‘الرأي العام’ و’السوداني’، ” دون تأثير ذلك على العاملين بهذه المؤسسات”، حسب د. صلاح مناع، الناطق الرسمي باسم اللجنة في تصريح صحفي ليوم 9 يناير.

وحسب مناع، فإن كل ما تم من حجز هدفه هو “استعادة أموال الشعب السوداني ولا يوجد أي استهداف لأشخاص بعينهم” وفسر أنه “ستكون هناك مراجعة ولجان لتسيير هذه القنوات”. يرد هذا التفسير على انتقادات وجهتها عدد من المؤسسات المعنية بحقوق الصحفيين، مثل صحفيون لحقوق الإنسان (جهر)، الاتحاد الدولي للصحفيين، مراسلون بلا حدود ولجنة حماية الصحفيين، للجنة تفكيك نظام الثلاثين يونيو بعد الحجز على المؤسسات الإعلامية المذكورة أعلاه.

ومع التغييرات التي يشهدها السودان، يواجه بسط حرية التعبير والنزاهة عددا من التحديات، تتمثل في تأثيرات الثورة المضادة، القوانين المقيدة للحريات الموروثة من النظام البائد، عدم وجود رؤية واضحة لإعلام ما بعد الثورة، والرقابة الذاتية.‬

‫الثورة المضادة وخطة الوزارة‬

‫طبيعة الدولة العميقة تحكم بوجود أشخاص تابعين للنظام السابق في مختلف مفاصل الدولة، سواء كان ذلك في مؤسسات اقتصادية، سياسية أو إعلامية. ونسبة لتوغل النظام السابق في جميع جوانب الحياة اليومية، من الصعب اقتلاع هذا التأثير من جذوره. ‬

‫يقول علاء الدين محمود، عضو سكرتارية شبكة الصحفيين السودانيين، في تصريحه لـ ‘موقع الأضواء’ إن “الثورة ظلت بلا لسان نسبة للضعف الشديد في عمل الوزارة بينما تجد الثورة المضادة والنظام السابق مساحات إعلامية لأن مؤسساتهم ظلت موجودة كما هي وهذا وضع مختل جدا”.

‫ما يعزز فكرة بقاء إعلام الدولة العميقة وبرنامج الثورة المضادة هو أن القوانين المقيدة للإعلام التي اعتمد عليها النظام السابق، ما تزال موجودة. القانون الجنائي 1991، قانون الصحافة والمطبوعات لعام 2009، قانون أمن الدولة، وقانون جرائم المعلوماتية كلها قوانين ما زال على السودان إما تعديلها أو إلغاؤها تماما. ‬

‫كشف أشرف عبد العزيز، رئيس تحرير صحيفة ‘الجريدة’، عن شروع قوات الدعم السريع في فتح العديد من البلاغات ضد الصحف والصحفيين. السبب في ذلك، حسب عبد العزيز، هو أن تلك الصحف وصفت قوات الدعم السريع بكونها بـ “المليشيات”، الشيء الذي ترفضه تلك القوات، وبالتالي تقوم بفتح البلاغات.‬

‫تقف مثل هذه الانتهاكات كعائق أمام المجهودات المبذولة لترسيخ قيم حرية التعبير والعمل الصحفي الصحيح. ترسيخ هذه القيم هو ما تريد وزارة الإعلام العمل عليه. قال الرشيد سعيد يعقوب وكيل أول وزارة الثقافة والإعلام في حكومة الفترة الانتقالية ومدير الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون في تصريحات خاصة لـ ‘موقع الأضواء’ إن رؤية الوزارة لإعلام ما بعد الثورة لا بد أن يكون إعلام واقع الثورة ومطالبها في شعاراتها “حرية، سلام وعدالة” بناء الدولة المدنية.‬

‫”بالتالي لا بد أن يكون إعلام مكرس لتحقيق أهداف الثورة، وليس إعلام ذو خط واحد أو جهة نظر واحدة أو توجه منفرد ويجب أن يكون كل ذالك في إطار تعدد الرؤى الثقافية والسياسية والفكرية والعرقية والدينية وكل أنواع التعدد في السودان لا بد أن يعكسها الإعلام”، يفسر الوكيل الأول. ‬

‫تحقيق هذه الرؤية يتطلب خطوات على ثلاثة مستويات، يفسر يعقوب. المستوى الأول هو تغيرات في القوانين الراهنة التي تم سنها في فترة النظام المباد والتي تحد من حرية الصحافة وتضع العراقيل والعقبات أمام الصحفيين والمؤسسات الإعلامية.‬

‫”تلك القوانين أعدت وصُممت لتقيد حرية الصحافة والإعلام ولا بد من إحداث تغيرات تقلل من قبضة الدولة على الإعلام، وفي ذات الوقت توفر الحماية للصحفيين في الحصول على المعلومات والسعي لتطوير الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للصحفيين”، يفسر يعقوب.‬

«لا بد أن يكون إعلام مكرس لتحقيق أهداف الثورة، وليس إعلام ذو خط واحد.»

— الرشيد سعيد يعقوب، وكيل أول وزارة الثقافة والإعلام

‫يضيف يعقوب أن تلك القوانين سوف تكون شاملة تغطى المجالات كافة تستهدف الإعلام والصحافة والإعلام الإلكتروني وإنشاء مجلس أعلى يتولى رعاية هذه القضايا وتطبيق القوانين وإعطاء التصديق.‬

‫أما المستوى الثاني، فيعتمد على إعادة هيكلة المؤسسات الإعلامية من أجل تطبيق الإعلام لقيم وأهداف الثورة: “الأجهزة الإعلامية والمؤسسات الصحفية تستند إلى هياكل كانت مستندة إلى النظام السابق، وتعمل بطريقة التفكير التي كانت سائدة في ذالك الوقت. الخطة تشمل هيكلة جميع المؤسسات بما فيها مؤسسات القطاع الخاص”، يفسر يعقوب. ‬

‫يؤكد الوكيل الأول للوزارة أنه على المؤسسات الإعلامية الخاصة أن تعيد هيكلة مؤسساتها للتماشي مع متطلبات المرحلة، وإعطاء دور أكبر للعاملين والصحفيين في إدارة هذه المؤسسات، حتى لا يُعتمد الأمر للملاك أو الناشرين فقط.‬

‫أما المستوى الثالث والأخير في خطة الوزارة من أجل تحقيق إعلام الثورة هو “الموارد البشرية والتدريب” ، وأن تواكب الصحافة في السودان التطورات التي تحدث في العالم. ‬

‫وتمثل هذه الخطة، بالتزامن مع عمل لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو إجابات لمتطلبات إصلاح المؤسسة الإعلامية السودانية. بيد أن للإعلام السوداني مشاكل عميقة في عدد من الجوانب الأخرى، من بينها عدم وجود كيان موحد للصحفيين السودانيين، يأتي برؤية استراتيجية موحدة للإطار الإعلامي في السودان. ‬

الاتحاد قوة‬

‫بعد التوقيع على الوثيقة الدستورية بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغير في 17 أغسطس 2019 وتشكيل الحكومة الانتقالية، قامت السلطات بحل النقابات والاتحادات المهنية باعتبار أنها امتداد للنظام السابق ولم تكن تنظيمات مهنية مستقلة. هكذا تم حل الاتحاد العام للصحفيين السودانيين المنسوب للنظام البائد.‬

‫تأسست شبكة الصحفيين السودانيين، وهي كيان نقابي وحركة ضغط غير مسجلة رسمياً، بمبادرة من صحفيين في عام 2008 يدافعون عن حرية الصحافة. تبنت الشبكة قضايا الوسط الصحفي ودافعت عن حرية الصحافة بدلاً عن اتحاد الصحفيين الذي كان منسوبا للحكومة.

‫فغير قضايا الصحف والنشر، كانت الشبكة من الأجسام المهنية التي أعلنت مناهضتها لحكومة الإنقاذ وطالبت بإسقاطها. أسست شبكة الصحفيين مع لجنة أطباء السودان ولجنة المعلمين، تجمع المهنيين السودانيين، الذي ساهم في قيادة الثورة السودانية.‬

‫وفي عام 2019 ارتقت الشبكة بنضالاتها واكتسبت الاحترام والاعتراف المحلي والدولي، باختيارها ضمن مرشحي جائزة ‘مراسلون بلا حدود’ العالمية لأجل نضالاتها ودفاعها عن حرية التعبير، ولتأثيرها ودورها البارز في الحياة العامة.‬

‫كل هذه الإنجازات جعلت من الشبكة كيانا يتعامل مع وزارة الإعلام بانفتاح. هكذا قدمت الشبكة رؤيتها للوزارة للتعامل مع المؤسسات الإعلامية في مذكرة احتوت على أربعة مطالب جوهرية، هي “1. تشكيل لجنة تقصي حقائق لمراجعة ملكيات وأصول المؤسسات الإعلامية، 2. الإيقاف الفوري لكافة المؤسسات الإعلامية التابعة لجهات نظامية، 3. هيكلة مؤسسات الإعلام الرسمية لصالح أن تكون مؤسسات خادمة للمجتمع، أما المطلب الأخير فينادي بالإعداد لمؤتمر إعلامي لوضع استراتيجية إعلامية”. ‬

«من الضروري أن تكون هنالك رؤية واضحة حول عمل الإعلام.»

— علاء الدين محمود، عضو سكرتارية شبكة الصحفيين

‫هذه المطالبات جاءت لكون أن الشبكة وجدت أنه “من الضروري أن تكون هنالك رؤية واضحة حول عمل الإعلام وليس تركه لمنهج وتفكير الوزير وتقديره للأشياء”، كما يقول علاء الدين محمود، عضو سكرتارية شبكة الصحفيين.‬

‫إلا أنه وفي مايو 2019 أثناء اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة، حدث انشقاق وسط الصحفيين وخرجت مجموعة من الشبكة وأسست بما يسمى بـ ‘اللجنة التمهيدية لاستعادة نقابة الصحفيين’.‬

‫بالإضافة إلى هتين المجموعتين، نجد كذلك “المجموعة التي تسمى نفسها بالنقابة الشرعية التي حلت عشية انقلاب البشير في 30 يونيو 1989″، و”تجمع الإعلاميين […] جسم نشأ مؤخرا يضم الصحفيين وكافة الإعلاميين ممن يعملون في مكاتب الإعلام بالوزارات والهيئات الحكومية بجانب المؤسسات الإعلامية الحكومية، بالإضافة إلى بعض الصحفيين بالصحف اليومية”.، حسب تقرير للجزيرة.

‫بعد هذا الانقسام، قاد الأستاذ محجوب محمد صالح، في ديسمبر 2019، مبادرة تحت عنوان “توحيد الوسط الصحفي حول لجنة التسيير ونقابة الصحفيين”، وعلى الفور وافقت كل الأجسام في على المبادرة كشبكة الصحفيين السودانيين، شبكة إعلاميات السودان، كيان الصحفيات، صحفيون لحقوق الإنسان – جهر، والنقابة الشرعية.‬

«إن وحدة الصحفيين في الوقت الراهن ضرورة قصوى لمواجهة التحديات التي تواجه الوطن والمهنة. »

— أيمن سنجراب، عضو مبادرة توحيد الوسط الصحفي

وقال مصدر مطلع في المبادرة، فضل حجب اسمه، لـ ‘موقع الأضواء’ أنه تم تشكيل لجنة خماسية عبر المبادرة، بهدف وضع قانون ونظام أساسي لنقابة الصحفيين السودانيين.

بسم الله الرحمن الرحيممبادرة توحيد الوسط الصحفي حول لجنة التسيير ونقابة الصحفيين السودانيينبيان الشعب السوداني…

Gepostet von ‎شبكة الصحفيين السودانيين‎ am Sonntag, 29. Dezember 2019

‫وأوضح نفس المصدر أن اللجنة تتجه لاختيار ممثلين من المكونات الصحفية بهدف تكوين لجنة تسييرية للاتحاد العام للصحفيين الذي تم حله مؤخراً، تنحصر عضويتها ما بين 12 و15 عضواً. ومن ضمن مهام اللجنة، أن تقوم بتَسْيِير الأعمال العاجلة كسد الفراغ الذي تركه الاتحاد العام للصحفيين، على أن تنتهي أعمال اللجنة التسييرية حين انتخاب النقابة بحسب القانون الجديد.

يقول عضو مبادرة توحيد الوسط الصحفي أيمن سنجراب لــ ‘موقع الأضواء’ إن وحدة الصحفيين في الوقت الراهن ضرورة قصوى لمواجهة التحديات التي تواجه الوطن والمهنة، وباعتبار أن الاتفاق على الخطوات السابقة والتمهيدية لقيام النقابة يمثل دافعا للاتفاق على مرحلة التأسيس وما بعدها من مراحل.‬

هذا و‫يضيف سنجراب‬ أنه‫ “لا يوجد خلاف حول الأهداف، وسوف يشهد الوسط الصحفي في الأيام المقبلة نتائج مبشرة تليق بالآمال التي يعلقها الشعب على الصحافة والصحفيات والصحفيين الأحرار.”‬

‫”صحافة حرة أو لا صحافة” كان شعارا للصحفيين السودانيين في عهد النظام السابق. صحافة حرة من الرقابة، سواء كانت خارجية أم ذاتية.

‫الرقابة الذاتية‬ ‬

ظل الصحفيون السودانيون يعانون ويواجهون شبح الرقابة الذاتية طول الثلاثين سنة الماضية. كان السبب في هذه الرقابة العقاب الذي كان النظام السابق يسلطه على كل من ينتهك “الخطوط الحمراء“، والتي كان من بينها النزاعات المسلحة في أطراف البلاد، واتهام البشير بواسطة المحكمة الجنائية الدولية.

ويبقى هذا النوع من الرقابة الأكثر صعوبة للاستئصال، نسبة لأنه من ثمار جهود طويلة وتدريجية لزرع الريبة ومنطق ‘من خاف سلم’. ‬

‫في 11 ديسمبر 2019، كشفت شبكة الصحفيين السودانيين عن ممارسة الصحافة للرقابة الذاتية وامتناعها عن نشر مقالات ومواضيع تمس بعض رموز النظام البائد، للكاتب الصحفي الشهير فتحي الضو.‬

‫وامتنعت صحيفة أخرى أيضاً عن نشر المقال بحجة أن السياسة التحريرية للصحيفة تتجنب التركيز على الأشخاص. يقول رئيس تحرير صحيفة ‘الجريدة’ أن هذا الأمر يعود للسياسة التحريرية للمؤسسة، ويقول إن الرقابة الذاتية تكمن في أخلاقيات مهنة الصحافة فقط، ويردف: “ربما تلك المؤسسات لديها مصالح في عدم نشر مقالات الضو، لكن مقالاته تنحو لكشف ملفات فساد النظام البائد.”‬

‫ويُعرف الضو بعدد من المؤلفات التي كشفت عن خبايا النظام السابق والمعارضة السودانية، مما أدى إلى منع كتبه في السودان.

‫وبالطبع يرجى أن يكون مستقبل الإعلام السوداني خاليا من أي نوع من الرقابة، حتى تتمكن كل الأصوات من الوصول إلى كافة الشعب السوداني، الذي بمعرفته ووعيه، يتمكن من تقييم أهمية كل منتج صحفي أو غيره، في بيئة تتسم بحرية التعبير، العمل النزيه، الشفافية والمساءلة. ‬