آلاف المتظاهرين يقفون أمام وزارة العدل في الخرطوم لتسليم مذكرة تضامنا مع قتلى الجنينة، غرب دارفور.
(cc) موقع الأضواء | محمد الأمين | 2 يناير، 2020


جذور أزمة الصراع القبلي في السودان ما تزال مائلة بالنسبة للكثير من المواطنين والخبراء، رغم نجاح الثورة السودانية في تجسير الكثير من الخلافات الإثنية والدينية بين المواطنين السودانيين.


بدأت النزاعات القبلية في التمدد في أكثر من منطقة في السودان من شرقه إلى غربه، وكان آخرها المجزرة التي وقعت في منطقة الجنينة بولاية غرب دارفور حيث لقي العشرات مصرعهم في نزاع بين قبيلتي المساليت (الأفريقية) وقبائل عربية.

ويتهم الكثير من الثوار عناصر النظام السابق ومن يسمونهم بقوى “الثورة المضادة” بإشعال نار الفتنة القبلية من أجل زعزعة الأوضاع الأمنية والسياسية وتقويض الفترة الانتقالية، لاسيما في ظل استمرار المحاكمات وأعمال مبدأ المحاسبة ضد جرائم قتل المتظاهرين والفساد وغيرها.

في المقابل يرفض أنصار البشير تلك الاتهامات ويعتبرونها محاولة من أنصار النظام الجديد وقوى الحرية والتغيير لتعليق فشلهم في إدارة الدولة على شماعة النظام القديم ودولته العميقة.

نزاعات متتالية

توالت وتيرة النزاعات القبلية في كلا من دارفور وشرق السودان خلال الشهرين الماضيين بصورة متسارعة ومرتفعة وعنيفة، ما أدّى إلى مقتل المئات. هذا ما اضطر الحكومة الانتقالية وحكامها العسكريين – حتى الآن – لإعلان حالة الطوارئ وحظر التجوال في عدد من الولايات، كما تم نشر قوات الدعم السريع في عدد منها.

وتكررت النزاعات في ولايات القضارف والبحر الأحمر بين قبيلتي البني عامر والنوبة من جهة والتي أدت إلى مقتل أكثر من ثلاثين شخصا في أغسطس الماضي وكذلك بين قبيلتي البني عامر والهدندوة اللتان تنتميان كليهما لإثنية البجا في شرق السودان من ناحية أخرى.

إقليم دارفور بغرب السودان كان الأسوأ حظا من شرق البلاد إذ ارتفعت وتيرة النزاعات بين الرعاة المنتمين لقبائل عربية وبين المزارعين المنحدرين من قبائل الإقليم ذات الأصول الأفريقية.

شهدت ولاية شمال دارفور حوادث قتل متكررة نتيجة محاولات الرعاة السيطرة علي مناطق تتبع للمزارعين. وفي شهر ديسمبر 2019، حمل محتجون بولاية شمال دارفور جثث ذويهم الذين قتلوا في نزاع بين مسلحين رعاة ومزارعين وتركوها أمام منزل والي الولاية، مطالبين بالعدالة وفرض الأمن وهيبة الدولة وحكم القانون.

أكبر الحوادث التي وقعت مؤخرا في إقليم دارفور المضطرب أصلا، كانت خلال الأيام القليلة الماضية في معسكر كريندنق للنازحين بمدينة الجنينة، ولاية غرب دارفور، حيث سقط، حسب اليوناميد، حوالي 65 قتيلا وجرح 54 إضافة لنزوح الآلاف من معسكر النازحين توجه معظمهم غربا باتجاه الحدود التشادية – السودانية طلبا للأمن. هذا وقد أشارت جمعية الهلال الأحمر السوداني إلى سقوط 48 قتيلا، 241 مصاب، بالإضافة إلى نزوح حوالي 8111 أسرة.

وخف وفد من الحكومة الانتقالية في الخرطوم بقيادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ونائب رئيس المجلس الانتقالي محمد حمدان دقلو (حميدتي) وقيادات من التحالف الحاكم المعروف بقوى الحرية والتغيير إلى ولاية غرب دارفور، والتقى بحكومة الولاية وقيادات الإدارات الأهلية في محاولة لاحتواء الأوضاع المتفجرة.

هذا وأرسلت الخرطوم تعزيزات عسكرية من القوات المسلحة من العاصمة الخرطوم ومدينة نيالا بولاية جنوب دارفور.

صراعات وشكوك

وتعود أحداث العنف في كل الحالات السابقة إلى نزاعات فردية سرعان ما تتحول إلى نزاعات ذات طابع إثني واسع يقود إلى مقتل عشرات الأفراد وسط استخدام للأسلحة النارية والموتوسيكلات والسلاح الأبيض الأمر الذي عزز فرضية البعض بوقوف جهات تنتمي للنظام السابق في تأجيج النزاع القبلي.

“هناك مسلحون بملابس رسمية شاركوا في العدوان على المعسكر، الأمر الذي يشي بأن جزء من القوات الحكومية انحازت على أساس قبلي”

— آدم أحمد، من معسكر كريندنق (1)

ويقول نازحون من معسكر كريندنق للنازحين إن الصراع الذي نشب يوم الإثنين الماضي حول المعسكر، بدأ بنزاع بين شباب ينتمون لقبيلة المساليت ويعملون كناشطين في لجان المقاومة التي انتظمت بكافة أنحاء السودان، وأفراد مسلحون من القبائل العربية، الأمر الذي تحول إلى نزاع مسلح وخرج عن نطاق السيطرة بصورة سريعة.

ويقول آدم أحمد، 30 سنة، من معسكر كريندنق (1) إن النزاع كان فرديا بين مجموعتين صغيرتين، لكنه أدّى إلى مقتل أحد أفراد القبائل العربية، قبل أن تتجمع مجموعات قبيلة مسلحة بهدف الانتقام لقتل منسوبهم.

ويبين أحمد لـ ‘موقع الأضواء’ عبر الهاتف أن مجموعات مسلحة من القبائل العربية حاصرت المعسكر من ثلاثة اتجاهات وقامت بحرق عدد كبير من المنازل في المعسكر، بل وامتدت الحرائق إلى بعض القرى المجاورة للمعسكر الأمر الذي قاد إلى أضرار واسعة في الأرواح والممتلكات.

“ما حدث في معسكر كريندنق يعتبر مجزرة كاملة الأركان مع سبق الإصرار والترصد، المشكلة بدأت بشكل بسيط وكان يمكن احتواؤها، لولا تجمع الآلاف من المسلحين التابعين للقبائل العربية، الأمر الذي فاقم المشكلة وتم القتل بصورة انتقامية وجماعية بالإضافة للحرائق والتشريد”، يضيف أحمد.

“هناك مسلحون بملابس رسمية شاركوا في العدوان على المعسكر، الأمر الذي يشي بأن جزء من القوات الحكومية انحازت على أساس قبلي وشاركت في المجزرة وهذا أمر خطير يجب أن تحسمه حكومة حمدوك بشكل عاجل”، يفسر أحمد.

“الاعتداء بدأ من قبل من يسمون لجنهم لجان المقاومة في معسكر كريندنق”

— أحمد شوقار، من أبناء منطقة العامرية الواقعة قرب معسكر كريندنق

لكن أحمد شوقار، من أبناء منطقة العامرية الواقعة قرب معسكر كريندنق وتقطنها مجموعات عربية، يرى أن الحادثة تعود إلى الشحن السياسي الذي يستخدمه قادة الحركات المسلحة في دارفور لأبناء المعسكرات، مشيرا في حديثه لـ ‘موقع الأضواء’ عبر الهاتف أن ما حدث بالقرب من كريندنق كان اعتداءا صريحا وغير مبررا ممن يسمون أنفسهم لجان المقاومة في معسكرات النازحين.

“الاعتداء بدأ من قبل من يسمون لجنهم لجان المقاومة في معسكر كريندنق على أحد أبناء القبائل العربية بدون مبرر، بل وتعدّى الأمر ذلك للإساءات ووصف أبناء القبائل العربية بالانتماء للنظام البائد، وهذا تصرف يتّسم بالعنصرية وهو ما قاد لردود أفعال غير محسوبة، نحن نترحم على كل القتلى ونعدهم شهداء وندعو الجميع إلى ضبط النفس”.

اتهامات ومطالبات

اتهمت قوى إعلان الحرية والتغيير في ولاية غرب دارفور عناصر من النظام السابق بالوقوف وراء أحداث العنف، داعية إلى إقالة الحاكم العسكري لولاية غرب دارفور بشكل فوري.

تنسيقية قوى الحرية والتغيير بغرب دارفور تدين العنف والعنف المضاد وتحمل الحاكم العسكري واللجنة الأمنية كامل المسؤولية لما حدث والتقاعس في حماية المواطنين، ونطالب حكومة السلطة الانتقالية بإقالة حاكم غرب دارفور العسكري فوراً والإسراع بتعين حاكم مدني يعمل مع قوى الثورة من أجل تحقيق أهداف فترة الانتقال وتحقيق سلام وتعايش سلمي بين المكونات الاجتماعية يسودها الثقة المتبادلة”.

من جانبه حمل نائب رئيس مجلس السيادة وقائد قوات الدعم السريع حميدتي من أسماهم بـ “المنتفعين” بالوقوف وراء أحداث العنف، رافضا رمي اللائمة على قوى أجنبية. وتابع في كلمة بالجنينة: “لا يجب أن نرمي بمشاكلنا على جهات خارجية هذه المشكلة داخلية ومن قام بها سيعاقب والتحقيقات ستبدأ بكل شفافية وسنحاسب الجميع وفقا للقانون”.

وفي الخرطوم انطلقت تظاهرة تضامنية شارك فيها عشرات الآلاف من المواطنين السودانيين يوم الخميس 2 يناير، داعين إلى أهمية محاسبة المتورطين في أحداث العنف، وإقالة والي الولاية وتعيين الولاة المدنيين في كافة الولايات حسب منطوق الوثيقة الدستورية، إضافة لنزاع سلاح المليشيات في كافة أنحاء البلاد، والإسراع في استكمال مفاوضات السلام الجارية حاليا في جوبا عاصمة جنوب السودان بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة.

وردد المتظاهرون الذي تجمهروا أمام مجلس الوزراء لعدة ساعات بهتافات دعت إلى العدالة والسلام، مثل “دارفور بتنزف دم”، ” وينو السلام وينو”.

(cc) موقع الأضواء | حجوج كوكا | 2 يناير، 2019

تم عقد مؤتمر للصلح بين ممثلي أطراف النزاع، حيث تم الاتفاق على وقف العدائيات. وبعد المؤتمر، نشر الاتحاد العام لأبناء المساليت بيانا، يوم الأحد خامس يناير، أكد في نقطته الثانية أنه “على حكومة الثورة تحمل كامل المسؤولية في الوصول إلى الجناة لهذه المجزرة بمصداقية والتي تمت ضدد المدنيين من قبل قوة تمتلك عتاد عسكري كامل”، مطالبين بـ “لجنة تقصي حقائق دولية محايدة في هذه المجزرة البشعة لأننا لا نثق في اللجان التي تعمل بعض أعضاءها في أخفاء الجريمة قبل البحث عن الجناة”.

بورتسودان مرة أخرى

وقبل أن تجف الدماء التي سالت في غرب البلاد، أطلت النزاعات القبلية مرة أخرى في مدينة بورتسودان، إذ تجددت النزاعات في المدينة بين قبيلتي البني عامر والنوبة الأمر الذي قاد مجددا إلى مقتل ما لا يقل عن 8 أشخاص وجرح آخرين.

وتقول عبير أحمد، 40 عاما، من مدينة بورتسودان لـ ‘موقع الأضواء’ إن النزاع بدأ بين شخصين أحدهما يتبع لقبيلة البني عامر والآخر من قبيلة النوبة في السوق المركزي في المدينة يوم الخميس، الأمر الذي قاد إلى مقتل منسوب قبيلة النوبة، الأمر الذي عده منسوبي القبيلة خرقا لاتفاق الصلح الذي وقع بين القبيلتين في سبتمبر الماضي.

وتمضي عبير التي تقطن حي المطار بمدينة بورتسودان للقول بأن النزاع امتد صبيحة اليوم التالي (الجمعة) إلى بعض أحياء المدينة الأمر الذي أدّى إلى مقتل عدد من أبناء القبيلتين. وتشير عبير إلى استخدام السلاح الناري والموتوسيكلات خلال المشادات القبلية الأمر الذي يشي بوجود جهات تريد تأجيج الصراع.

ودعا ناشطون في المدينة إلى ضرورة إقالة الولاة العسكريين للولايات المختلفة، مشيرين إلى ضعف إجراءات التأمين وانحياز بعض أفراد القوات النظامية لصالح انتماءاتهم القبلية.

الوطني ينفي الاتهامات

نفى مسئول سابق في حزب المؤتمر الوطني المحظور، بشكل قاطع ضلوع حزبه في النزاعات القبلية التي اندلعت في مناطق مختلفة في السودان في الآونة الأخيرة. وأضاف المسئول الذي فضل عدم ذكر اسمه لـ ‘موقع الأضواء’ إن حزبه (المؤتمر الوطني) يرفض العنف القبلي ويحرص على وحدة النسيج الاجتماعي ودرء الفتن القبلية والإثنية في كافة أنحاء السودان.

لا علاقة للمؤتمر الوطني بهذه النزاعات القبلية ونرفض الاتهامات الجزافية التي توجه لنا في هذا الإطار”

— مسئول سابق في حزب المؤتمر الوطني المحظور

واتهم المسئول قادة قوى إعلان الحرية والتغيير وحكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بالفشل في إدارة ملفات عديدة بينها ملف الصراعات القبلية ويريد تعليق مسئولية فشله على الحزب الحاكم والنظام السابقين.

“لا علاقة للمؤتمر الوطني بهذه النزاعات القبلية نحن ننفي علاقتنا بهذا الأمر، ونرفض الاتهامات الجزافية التي توجه لنا في هذا الإطار، وندعو قوى إعلان الحرية والتغيير عدم رمي مسئوليتها وفشلها في حفظ الأمن على حزبنا”.

“قوى الحرية والتغيير ترمي بكل خلل وفشل على النظام السابق، بل حتى فشلها في توفير احتياجات المواطنين مثل الرغيف والقمح والمواد البترولية والدواء والصفوف وأزمة المواصلات وارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه، هذه اتهامات غير منطقية”، يضيف مسؤول حزب المؤتمر الوطني.

ميزان القوى

من جانبه يعزو خبير عسكري أسباب تمدد النزاعات القبلية مؤخرا، إلى محاولة أطراف عديدة كانت تستفيد من النظام السابق في إعادة إنتاج موازين القوى كما كانت عليه سابقا من أجل المحافظة على مصالحها. ولا يستبعد في ذات الوقت تضافر ذلك مع مصالح عناصر النظام السابق، إضافة لمصالح بعض دول الجوار.

الثورة أطلقت الحريات وحرية التعبير […] وهذا الأمر […] يفقد القوى التي كانت تسيطر قديما قوتها ومصالحها، ولذلك تحاول اللجوء للعنف وإشعال الفتن من أجل إعادة إنتاج ميزان القوى القديم”

— خبير عسكري، طلب حجب اسمه

ويقول الخبير العسكري لـ ‘موقع الأضواء’، الذي طلب حجب اسمه، إن العامل المشترك بين النزاعات في شرق وغرب البلاد هو غياب هيبة الدولة وحكم القانون، إضافة لوجود أياد خفية تعمل على تأجيج الصراع.

“الثورة أطلقت الحريات وحرية التعبير وبدأ ضحايا الحروب والنزاعات ومواطني المناطق المهمشة في البحث عن حقوقهم وبالتالي علا صوتهم، وهذا الأمر يهدد جهات كثيرة لأنه يعدل ميزان القوى ويفقد القوى التي كانت تسيطر قديما قوتها ومصالحها، ولذلك تحاول اللجوء للعنف وإشعال الفتن من أجل إعادة إنتاج ميزان القوى القديم”.

ويحذر الخبير من سيولة الأوضاع الأمنية نتيجة لإعادة صفوف وترتيبات القوات النظامية المختلفة حاليا بسبب مرورها بالفترة الانتقالية السياسية التي تمر بها البلاد، الأمر الذي يخلق حالة من الهشاشة، مشددا على أهمية التعامل بصورة استراتيجية مع ملف السلام مع الحركات، وضرورة تخلي الجميع عن التعامل التكتيكي مع ملف السلام.

“يجب على القوات النظامية وكل الحكومة أن تعمل بسرعة على إعادة ترتيب صفوفها، وإجراء الإصلاح اللازم وسط القوى العسكرية والأمنية عقب الثورة، حتى تتمكن من القيام بدورها في حفظ الأمن والاستقرار”.