القلد’، من طقوس شرق السودان التي تساعد على وقف العدائيات وإرساء السلم الاجتماعي بين الأفراد، المجموعات والقبائل.
(cc) موقع الأضواء | حامد إبراهيم | 4 يناير 2020


وقعت اشتباكات في بورتسودان من ثاني إلى نهاية الثالث من يناير الجاري أدت إلى وفاة تسعة أشخاص وإصابة 97 آخرين. هذا الصراع ليس جديدا بل يمتد لسنوات. السلام هو أحد شعارات الثورة السودانية، فكيف يمكن لإرث شرق السودان أن يساهم في تثبيت السلام والصلح الاجتماعي بين مجموعات طال الصراع بينها؟


بالتزامن مع أحداث فض إعتصام القيادة العامة في الخرطوم في يونيو 2019، اندلعت مناوشات ذات طابع قبلي بين أبناء جبال النوبة من جهة ومنسوبي قبيلتي البني عامر والحباب من جهة أخرى في مدينة بورتسودان الساحلية، شرقي السودان‪.‬ خلفت الأحداث التي استمرت حوالي أربعة أيام أربعين قتيلا وعشرات الجرحى.

يقول المعلم في مدرسة دار النعيم الأساسية، أحمد صالح، لـ’موقع الأضواء’ إنه في يوم 2 يونيو الماضي، والذي صادف زحاما في سوق الحي لأنه اليوم الذي يسبق عيد الفطر، تجمعت أعداد كبيرة من شباب ينتمون إلى عصابات مسلحة بالأسلحة البيضاء وقاموا بنهب وتكسير عدد من المحلات التجارية في سوق دار النعيم، الذي يغلب على سكانه أبناء قبيلتي البني عامر والحباب.

“قام أفراد القبيلتين بالتصدي للعصابات التي فرت إلى داخل حي فلب المجاور الذي يقطنه أبناء جبال النوبة” يقول صالح، الذي كان حاضرا في السوق ذلك اليوم.

ويضاف إلى ذلك إلى هذه الأحداث وجود احتكاكات قديمة بين أبناء جبال النوبة من جهة وأبناء قبيلتي البني عامر والحباب من جهة أخرى في ثمانينات القرن الماضي، خلفت حينها عددا من الضحايا.

تعود أحداث النزاع القبلي الأخير إلى مدينة القضارف في مايو 2019، حيث كان سببها صراع حول موارد المياه، مما أدى إلى مقتل سبعة أشخاص.

كل هذه الأسباب أدت إلى تفاقم الاحتكاكات ونتجت عنها هجمات متبادلة خلفت عددا من القتلى والجرحى. في الرابع والخامس من يونيو، 2019، امتدت المواجهات لتشمل أحياء أخرى غرب مدينة بورتسودان مما أدى لإصابة المدينة بشلل تام، فاقمه إعلان السلطات حظرا للتجول. ولم يُجدِ انتشار الجيش والدعم السريع في الحدود الفاصلة بين الأحياء السكنية في محاولة للفصل بين القبيلتين.

تواصلت النزاعات الدامية في شهر أغسطس 2019، في بورتسودان، “مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 13 شخصًا”، حسب موقع العربية.

الشرق والثورة

هذه الصراعات هي مثال لما يعاني منه سكان شرق السودان منذ سنوات. تحت حكم الرئيس المخلوع عمر البشير، كان شرق السودان يعاني من الإهمال مثل عدد من مناطق السودان غير المركزية.

كان النظام البائد كان يعتمد على كسب ولاء زعماء القبائل بإغداق المناصب والعطايا عليهم وكان بذلك يحصل على ولاء وقتي زائف. في المقابل، كان هذا التعامل يغذي النعرات القبلية في شرق السودان.

وكان جهاز أمن النظام، ممثلا في شعبة أمن القبائل، يرسم وينفذ من السياسات وينفق من الأموال ما يغذي هذه النعرات القبلية من منطق “فرّق تسد”، متحكما ومسيطرا على شرق السودان.

سبب المشاكل القبلية هو “توفر مساحات واسعة من الحريات بعد سقوط النظام في مجتمع كان مكبوتا ومخنوقا لثلاثين عاما مضت”

— محمد طاهر هلاوي، القيادي بقوى الحرية والتغيير في ولاية كسلا

في 2003، حدثت مشاكل قبلية بين البني عامر والأمرار في بورتسودان، إثر مقتل وكيل ناظر البني عامر، مما أدى حينها لاحتكاكات بين القبيلتين وموت عدد من الأشخاص.

جعلت سياسة التفريق والتهميش سكان بورتسودان ينتفضون أكثر من مرة ضد النظام. و في 18 ديسمبر 2018، خرج سكان المدينة للشوارع، بعد مدينة الدمازين، التي خرجت يوم 13 ديسمبر وقبل عطبرة التي دشنت انتفاضتها انتفاضة السودان كاملا في 19 ديسمبر 2018.

وبعد زوال النظام بفترة وجيزة، حدثت مشاكل قبلية عمت كافة ولايات الشرق. السبب في ذلك حسب تفسير القيادي بقوى الحرية والتغيير في ولاية كسلا، الأستاذ محمد طاهر هلاوي إلى “توفر مساحات واسعة من الحريات بعد سقوط النظام في مجتمع كان مكبوتا ومخنوقا لثلاثين عاما مضت.”

يضيف هلاوي أن “هنالك عدد من السياسيين من أبناء الشرق من مختلف القبائل الذين كانوا يعملون مع النظام المنهار وجدوا أنفسهم خارج اللعبة. ‪]‬هؤلاء‪[‬ يدغدغون عواطف البسطاء تارة باسم القبيلة وتارة أخرى باسم الدين، سعيا منهم لخلق أدوار جديدة لهم”.

في ظل الهشاشة الأمنية التي عاشها السودان في الفترة التي أعقبت سقوط النظام وإبان فض اعتصام القيادة وفي أواخر يونيو 2019، تفجرت المشاكل القبلية في الشرق ولم يكن أمام سلطات الثورة الوليدة بد من اللجوء إلى الموروث البجاوي المسمى بـ ‘القلد’ وتوظيفه في إطفاء الحرائق القبلية. وبالفعل فقد تم الاستفادة من ‘القلد’ في السيطرة على الأوضاع واستعادة السلم الاجتماعي‪.‬

القلد وترسيخ السلم

‘القلد’ هو عرف تستخدمه قبائل البجا بشرق السودان منذ القدم وتحافظ عليه حتى الآن في وقف العدائيات بكافة أشكالها وإرساء السلم الاجتماعي وتهدئة الأوضاع بين القبائل المتنازعة إلى حين إيجاد حل ناجع للمشكلة خلال فترة زمنية يتم تحديدها في ‘القلد’.

يعتبر ‘القلد’ بمثابة “عهد وميثاق غليظ”، حسب الباحث في تاريخ شرق السودان الأستاذ محمد عثمان خليفة. تلزم القبائل البجاوية نفسها بأن يتوقف القتال وكافة أشكال العدائيات في نفس لحظة قبول الطرفين بـ ‘القلد’، ويكون جميع حضور مجلس الصلح الذي رتب للقلد بمثابة شهود. يماثل ‘القلد’ عرف ‘الجودية’ في غرب السودان.

“في بعض الأحيان واحد من الطرفين يطلب ‘القلد’ من الآخر. إذا قبله، يمكن أن يتقالدوا، أو يتواثقوا بهذا ‘القلد’، دون أن يكون وسيط”، يفسر خليفة. “إذا اشتد الأمر وصعب التفاهم بينهم، يمكن أن يطلبوا طرف ثالث” يضيف خليفة. من ناحية شكلية يتم الاتفاق على ‘القلد’ كنتيجة لجهود يقوم بها وسطاء من الحكماء الذين يمتازون بالرأي السديد واللباقة وغالبا من خارج القبيلتين المتنازعتين.

بعقد أولا ما يعرف بـ”المجلس” وقد يمتد إلى عدد من المجالس حسب ما يقتضي الأمر. المجلس نفسه عند البجا له طقوس وأعراف وأدب وهو بمثابة اجتماع يعقد في الساحات ويجلس فيه الحضور على الأرض في شكل دائرة ويحضره وجهاء وحكماء من القبيلتين ومن القبائل الأخرى التي ينتمي إليها الوسطاء.

في الماضي، عندما كانت الأطراف تتوصل لاتفاقية ‘القلد’، لم تكن توثق كاتبة، وإنما كانت تتم تلاوتها شفاهيا. وبالرغم من ذلك، كان كل طرف يظهر التزاما صارما بعدم الاعتداء أثناء فترة ‘القلد’. في عصرنا الحالي أصبح ‘القلد’ يدون في وثيقة تملك للطرفين وتوقع عليها كافة الأطراف المتقاتلة. يوقع الوسطاء على وثيقة ‘القلد’ كشهود.

“في هذه الفترة ليس هناك شخص أو قبيلة أو مجموعة تعتدي على القبيلة الأخرى حتى نهاية فترة ‘القلد’. وإذا ما اكتملت كل الحلقات المشكلة يجدد ‘القلد'”، يفسر الباحث في التراث والتاريخ البجاوي، الأستاذ محمد حامد فكي. يعتبر انتهاك ‘القلد’ جريمة كبرى في العرف البجاوي. يواجه منتهك ‘القلد’ عقوبات مادية ومعنوية، ويقاطع اجتماعيًا واقتصاديا.

تمكنت حكومة ولاية البحر الأحمر وبوساطة من منظمات المجتمع المدني، وبدفع من قوى الثورة بالبحر الأحمر، من تمديد فترة ‘القلد’ بين القبائل البجاوية المتنازعة فيما بينها إلى ستة أشهر أخرى. وانقضى الأمد المحدد سابقا في العشرين يوما في العاشر من ديسمبر 2019.

نقض القلد

لجنة أطباء السودان المركزيةفرعية ولاية البحر الأحمربيان للناسما تبقو رقراقيا تبقو يا ضل يا شموس.. شهدت الولاية…

Gepostet von ‎لجنة أطباء السودان المركزية‎ am Freitag, 3. Januar 2020

رغم المكانة العالية التي يحتلها ‘القلد’ في شرق السودان، فإن التطورات الأخيرة ربما تشير إلى أن التشبث بهذا العهد لم يعد كما كان.

اشتباكات جديدة وقعت في بورتسودان “بدأت عصر يوم الخميس 2 يناير 2020، عندما استقبلت مشرحة بورتسودان الجثمان الأول نتيجة اشتباك فردي بالسلاح الأبيض نتج عنه وفاة المجني عليه وتم القبض على الجاني والتحفظ عليه”، يفسر بيان الرابع من يناير للجنة أطباء السودان المركزية.

ارتفع عدد الإصابات والوفيات حتى نهاية الثالث من يناير، لتسفر عن 9 حالات وفاة و97 مصاب، حسب بيان آخر من طرف اللجنة بنفس التاريخ.

وإلى جانب ‘القلد’، فهنالك العديد من الإجراءات كان من الممكن اتخاذها لتفادي الصراع الدموي.

حسب تصريح صحفي لقوى إعلان الحرية والتغيير – البحر الأحمر بتاريخ الثالث من يناير 2020، فلقد اجتمعت القوى مع والي ولاية البحر الأحمر المكلف لمناقشة “أهمية انتشار القوات الأمنية في مناطق التماس حسب المعلومات الواردة من لجنة العمل الميداني لقوى إعلان الحرية والتغيير – البحر الأحمر والتقارير الرسمية لمعالجة الثغرات الأمنية في مناطق محددة؛ ضرورة إصدار تصريح صحفي من المكتب الإعلامي للشرطة يحوي تفاصيل الحادثة ومجريات التحريات حتى الآن؛ وضرورة اضطلاع القوات النظامية بدورها في حفظ الأمن دون تقاعس”.