“الذكرى السنوية الأولى لثورة ديسمبر المجيدة ” (cc) سودان بكرة


بثبات، تمكن المجتمع المدني السوداني من البقاء رغم القمع الذي استمر على مدى 30 عامًا في ظل نظام البشير، وقام بدور حيوي في الثورة التي أدت إلى إزاحة الرئيس السابق عن السلطة.


كان النظام السابق في السودان، بقيادة الرئيس المخلوع عمر البشير، مشهورا بقمعه للأصوات المعارضة، مما حد من استقلالية وحرية عمل منظمات المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان والطلاب ووسائل الإعلام والمعارضين السياسيين من خلال سياسات السيطرة والتقييد. وعلى الرغم من تشديد القمع، واصل السودانيون إنشاء حركات المجتمع المدني ودعمها وضمان استمرار وجودها.

تميز موسم الثورة الذي أنهى حكم البشير في أبريل 2019 وأدى إلى تشكيل حكومة انتقالية في سبتمبر 2019 بالعديد من الأشكال التنظيمية التي تتراوح بين الجمعيات المهنية وأطر للتحالفات السياسية ولجان أحياء ومبادرات مجتمع مدني أخرى، وجميعها كانت تقدم دعما وحلولا لمختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقد شكلت هذه المبادرات حجر الزاوية في ثورة السودان.

عندما بدأ وابل القمع العنيف للنضال الشعبي الشجاع، الذي انطلق في ديسمبر 2018، كان على المجتمع المدني في السودان، في الداخل والخارج، التحرك فورا.

استجابة سريعة

على سبيل المثال، تشكلت مبادرة ‘حاضرين‘ ردا على أول عنف ارتكب من قبل الحكومة ضد المتظاهرين في مدينة عطبرة. كان بكري علي، وهو مهندس سوداني يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، وناظم سراج، وهو ناشط شهير اعتقل عدة مرات من قبل النظام السابق لدوره الفعال في مختلف منظمات المجتمع المدني هما الذين أطلقاها. ومع ذلك، لم ينشط سراج أبدا سياسيا.

منذ ذلك الحين، دعمت ‘حاضرين’ الثوار المصابين وكفلت لهم تلقي العلاج. كما قدمت المبادرة الدعم المادي والنفسي لعائلات الجرحى والذين فقدوا أحبائهم. و من خلال عمل ‘حاضرين’، تلقى المئات من المتظاهرين المصابين العلاج المجاني، وقد تم دعم العشرات من الأسر ماليا.

أما مبادرة ‘سودان بكرة‘ فقد تم إطلاقها في أعقاب الثورة من قبل متخصصين في الإعلام والصحفيين السودانيين، يعيش معظمهم في الخارج، لتكون صوتًا رائدًا للثورة. ومع وجود أكثر من 50 ألف متابع لها على الفيسبوك، ساعدت المبادرة على كسب التضامن الدولي لانتفاضة السودان.

ركزت منظمتا ‘صدقات‘ و’صدقات – الولايات المتحدة الأمريكية‘ على جمع الأموال لدعم “الأنشطة الخيرية المتعلقة بالرفاه الاجتماعي والرعاية الصحية والتعليم”. وخلال اعتصام القيادة العامة، ساعدت ‘حاضرين’ و’صدقات’ في تمويل وتوزيع الطعام والماء والملاءات على المتظاهرين الذين واصلوا احتجاجاتهم ليلاً ونهاراً على مدى أسابيع طويلة.

لكن مبادرات المجتمع المدني السودانية لم تتناول فقط الاحتياجات المباشرة والعاجلة للثوار. فمبادرة ‘أحمد الخير’، التي أسسها المتظاهرون أثناء اعتصام القيادة العامة لإحياء ذكرى أحمد الخير، المدرس الذي توفي في فبراير 2019 أثناء احتجازه لدى جهاز المخابرات والأمن الوطني السابق في السودان، كسلا، قدمت دروسًا مجانية في الرسم والموسيقى، إضافة إلى مواد مدرسية للأطفال المشردين.

«استمرينا في عملنا المعتاد.»

— آية شامات، ‘شارع الحوادث

شارع الحوادث‘ هي مجموعة من الشباب السوداني الذين ساعدوا الفقراء ومكنوهم من تلقي العناية الطبية من خلال عملهم على وسائل التواصل الاجتماعي. هذه المبادرة، التي نشطت بالفعل لعدة سنوات، تساعد المرضى الفقراء على دفع فواتيرهم الطبية.

ومع معاناة بنوك الدم السودانية من النقص الحاد في الدم، تساعد ‘شارع الحوادث’ الناس أيضًا على إيجاد متبرعين بالدم بفئات تطابق حاجة المرضى. ويعمل المتطوعون على مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع في العاصمة السودانية الخرطوم وعدة ولايات للعثور على المتبرعين عبر وسائل التواصل الاجتماعي ولتوصيل الدم المتبرع به إلى المحتاجين.

في خطر كبير

آية شامات تعمل كمتطوعة مع ‘شارع الحوادث’ لسنوات عديدة. تقول شامات: “طوال أيام الثورة استمرينا في عملنا المعتاد في دعم المحتاجين مع فارق كبير: كان هناك المزيد من الجرحى والمزيد من الناس الذين يحتاجون إلى التبرع بالدم”.

وعلى الرغم من خبرة المبادرة، ونظرًا للزيادة الكبيرة في عدد الأشخاص المحتاجين للتبرع بالدم خلال أشهر الكفاح، فقد كانت مهمة المتطوعين القلائل المستعدين لتحمل المخاطر ضخمة جدا.

تقول شامات “لقد فقدنا أحد المتطوعين (أحمد تابيدي) الذي قُتل في أبريل 2019، وسُجن أربعة من قادتنا بسبب تقديم الدعم الطبي للثوار. وقد تم احتجاز أمين صندوق مبادرتنا لمدة ثلاثة أشهر ولم يطلق سراحه إلا من قبل الثوار بعد سقوط نظام البشير”.

وكما كان الحال مع المتطوعين في المبادرات المتنوعة، فلقد قام المتظاهرون بتعريض رفاهيتهم وحياتهم وحريتهم للخطر. اختفى العديد من المتظاهرين طوال الثورة. كان البحث عن الأقارب والأصدقاء المفقودين، في خضم اضطراب الثورة، المهمة التي اضطلعت بها مبادرة ‘مفقود‘.


«فقد الكثير من الناس أقاربهم.»

— يحيى حسين، مؤسس مبادرة ‘مفقود

تساعد مبادرة ‘مفقود’، والتي أسسها الباحث والناشط يحيى حسين، أسر المفقودين في بحثهم عن أقاربهم والتحقيق في أسباب وأماكن اختفائهم. يقول حسين إن المبادرة أصبحت أكثر نشاطًا بعد فض اعتصام القيادة العامة. “فقد الكثير من الناس أقاربهم ولم يعثروا عليهم لا في المستشفيات ولا في مراكز الشرطة. لذلك أطلقنا هذه المبادرة للمساعدة في العثور على الأشخاص الذين فقدوا خلال الثورة”.

وإلى جانب البحث عن الأشخاص المفقودين، دفعت المبادرة السلطات إلى النظر في حالات الأشخاص المختفين. يقول حسين إن”المبادرة قامت بتوعية الثوار حول ضرورة حمل بطاقات الهوية أثناء المسيرات والاعتصامات ليتم التعرف عليهم في حال فقدوا، وقد أطلعناهم أيضا على الخطوات التي يجب أن يقوموا بها في حال فقدان أي شخص وكيفية تجنب الاعتقال.”

التزامات متنوعة

في حين أن مختلف مجموعات المجتمع المدني، مثل مبادرة ‘حاضرين’ و ‘شارع الحوادث’ و ‘مفقود’ كانت تدعم المحتجين وعائلاتهم، كانت هناك مبادرات أخرى تعمل وراء الكواليس، أو في ذلك الوقت – على قضايا أقل إلحاحًا. فعلى سبيل المثال، عمل عبد الله عبد الوهاب، وهو مهندس برمجيات يبلغ من العمر 27 عامًا، مع متطوعين آخرين على إبقاء قنوات التواصل مفتوحة.

في أعقاب الأحداث المأساوية التي وقعت في ثالث يونيو 2019، قام عندها المجلس العسكري الانتقالي الحاكم بقطع شبكة الإنترنت لمدة شهرين تقريبًا، مما شجع عبد الوهاب على مواصلة فكرته. يقول عبد الوهاب: “بدأت بجمع عدد قليل من الأشخاص الذين لديهم شبكة اتصال محلية في السودان وغيرهم من السودانيين الموجودين في الخارج. كانت الفكرة هي نشر المعلومات حول الاحتياجات العاجلة داخل السودان، الطبية منها والحاجة إلى الكهرباء أو رصيد للبث.”

“عملنا أيضًا على توفير الاتصال للناس من خلال الرسائل النصية، للإعلان عن المسيرات المقبلة التي ينظمها تجمع المهنيين السودانيين. كان عملنا في الأساس ضمان أن تصل للناس رسالة من مصدر غير معروف (الرقم المحجوب) لإخبارهم عن المسيرات، أو توخي الحذر في بعض الشوارع أو أين يمكنهم العثور على مستشفى مفتوح”، يفسر عبد الوهاب.

«كانت الفكرة هي نشر المعلومات حول الاحتياجات العاجلة داخل السودان.»

–عبد الله عبد الوهاب

كما أن تنوع القضايا التي تعالجها مختلف فئات المجتمع المدني في السودان كثير. فخلال موسم الثورة الذي اتسم بالتوتر، كانت هناك حاجة إلى معالجة الأمور العاجلة. ومع ذلك، حافظت بعض المبادرات على توقعاتها ذات المدى الطويل. تعالج منظمة ‘حلم أخضر‘، على سبيل المثال، القضايا البيئية، وزراعة الأشجار ونشر الوعي حول القضايا البيئية بصورة رئيسية.

واصلت المنظمة عملها أثناء الثورة، وزرعت 150 شجرة في منطقة الاعتصام الرئيسية في القيادة العامة في الخرطوم – وتقف هذه الأشجار الآن شاهداً على نضال وتضحيات الشعب السوداني أثناء الثورة. ومنذ أن بدأت منظمة الحلم الأخضر بعملها، قامت “بزراعة ما يقرب من 20 ألف شجرة”، كما يقول مازن جمال، المدير العام للمنظمة.

المضي قدما

كان التحول السياسي في السودان في العام الماضي، بكل المقاييس، نجاحًا كبيرًا. ومع ذلك، لا تزال الأمة تواجه العديد من القضايا، تعود إلى حد كبير إلى إرث نظام فاسد ومتشدد استمر في السلطة لمدة 30 عامًا.

عن عملها في ‘شارع الحوادث’ تقول شامات أنه “لسوء الحظ، لم يتغير شيء. ما زلنا نقوم بمناوبات 7 أيام في الأسبوع والوضع في المستشفيات لا يزال كارثياً، والمرضى ما زالوا يعانون”.

تتعرض الحكومة الانتقالية في السودان، في ظل توازن قوى هش واقتصاد يعاني ضائقة عميقة، لضغوط لتقديم نتائج في ظل توقعات شعبية عالية. وتقول شامات أنه “برغم ذلك، فإننا متفائلون بشأن الحكومة الجديدة، ونأمل أن تهتم بالأسر ذات الدخل المنخفض. ونحن نأمل أيضا أن يتم تعديل أنظمة التأمين الصحي.”

قام المجتمع المدني المتنوع في السودان بدور حاسم في قيادة البلاد وشعبها إلى المستقبل وسيواصل القيام بهذا الدور الهام. وفي حين تستمر منظمات مثل ‘حلم أخضر’ في العمل من أجل سودان الغد، لا تزال المنظمات الأخرى تتعامل مع آثار الثورة.

يقول حسين من مبادرة ‘مفقود’ أن الأشخاص الذين فقدوا خلال الثورة هم الآن وفي المستقبل المنظور القضية الأولى، ويؤكد “بأن المبادرة ستواصل نشاطها حتى تجد كل واحد منهم.”

هذا الانضباط الرائع والعزم والشجاعة الذي يتمتع به أشخاص مثل حسين، شامات، عبد الوهاب، جمال والآخرين الكثر الذين غالبا ما يعملون بصمت وبجد خلف الأضواء، هو بالتحديد ما مكن المجتمع المدني السوداني، ليس فقط من الاستمرار على مدى 30 عاما من القمع تحت حكم البشير، ولكن أيضا من تقديم الخدمات التي كان الناس بأمس الحاجة إليها خلال الثورة التي أطاحت بنظامه.