صورة للمقر الرئيسي لبنك السودان في الخرطوم على الجانب الخلفي لورقة نقدية بقيمة جنيه واحد سوداني من سنة 1987. (cc) AHeneen


فقد القطاع المصرفي السوداني ثقة المواطنين السودانيين، بسبب سياسات وممارسات دامت ثلاثين سنة. ولاستعادة هذه الثقة، من الواجب اتخاذ قرارات صارمة ومختلفة، تكرس للمحاسبة والشفافية، وتشجع التنمية والاستثمار الداخلي والخارجي.


يقول أحمد بابكر، الذي يبلغ من العمر ثلاثين عاما ويعمل كموظف بإحدى الشركات الخاصة: “كنت أقف لساعات طويلة أمام ماكينة الصراف الآلي بعد انتهاء عملي اليومي لأتمكن من سحب ألفين جنيه”. يضيف بابكر أنه كان يجد صعوبة بالغة في الحصول على المبلغ الذي يريده عبر نافذة البنك.

فيما تقول المواطنة إكرام عبد الماجد إن تدهور القطاع المصرفي انعكس بشكل مباشر على حياة السودانيين وجعلها أكثر صعوبة حيث كان هناك اضطراب واضح في المعاملات، وفي بعض الأحيان “لا يمكنك الحصول حتى على أموالك المودعة بسبب شح السيولة”.

خلاصة عبد الماجد، هي انعدام الثقة: “نحن كمواطنين فقدنا ثقتنا في القطاع المصرفي السوداني”.

مشكلات متوارثة

قال رئيس الوزراء الانتقالي، عبد الله حمدوك في حوار تلفزيوني يوم 21 يناير “إن بنك السودان يعد أحد تركات النظام السابق وتحول إلى بنك تجاري يتاجر ويضارب في الذهب”.

فتحت هذه الاتهامات الباب مجددا أمام التحدي الذي يواجه الحكومة الانتقالية والمرتبط بكيفية إصلاح القطاع المصرفي في البلاد.

سبعة وثلاثون بنكا هي جملة البنوك العاملة في السودان تشكل النظام المصرفي الذي يعاني أوضاعاً مضطربة مرتبطة بواقع الاقتصاد السوداني وموروثة من سياسات النظام السابق للرئيس المعزول عمر البشير.

«بنك السودان يعد أحد تركات النظام السابق.»

— عبد الله حمدوك، رئيس الوزراء السوداني

يحتاج القطاع المصرفي إلى جراحة دقيقة لإصلاح ما أفسده نظام الإنقاذ خلال الثلاثون عاماً الماضية، جراء ما لحقت به من قوانين كرست للوضع الكارثي وسعر صرف غير ثابت بجانب بقاء اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب.

يفسر كمال كرار، خبير اقتصادي وعضو اللجنة الاقتصادية في قوى الحرية والتغيير أن “من عيوب الجهاز المصرفي السوداني القروض تذهب إلى أشخاص دون أن يتم استردادها وهذا مثبت بتقارير وأرقام من خلال الديون الموجودة في الجهاز المصرفي”.

هذه الممارسات أنتجت أزمة السيولة ولا توجد حدود في الجهاز المصرفي لضبط هذه الممارسة، حسب كرار. “نجد أن 75 في المئة من الكتلة النقدية خارج الجهاز المصرفي بسبب الممارسات الموجودة المتعلقة بالقروض التي تذهب إلى آخرين مما خلق أزمة ثقة بين المواطن والجهاز المصرفي”.

الهوية، المحاسبة والثقة

حسم هوية البنوك إذا كانت إسلامية أو غير ذلك تحدي آخر، حيث أن “صيغ المرابحة الإسلامية الموجودة في نظام الإنقاذ البائد حرمت قطاعات كبيرة من المجتمع من التمويل بسبب الضمانات الكبيرة، إضافة إلى وجود فساد كبير في القطاع المصرفي في حكم الإنقاذ والحكومات التي سبقته”، يفسر كرار.

لاستعادة ثقة المواطن السوداني في النظام المصرفي، يجب فرض الرقابة ومحاربة الفساد، حسب كرار، الذي يدعو إلى المزيد من الفعالية والرقابة على المؤسسات المصرفية والجهاز المصرفي إلى جانب التمسك باستقلالية البنك المركزي ليكون داعما للاقتصاد وليس خصماً عليه.

«يجب فتح ملفات الجهاز المصرفي ومحاسبة المتورطين في عمليات فساد الجهاز المصرفي.»

— كمال كرار، خبير اقتصادي وعضو اللجنة الاقتصادية في قوى الحرية والتغيير

“يجب فتح ملفات الجهاز المصرفي ومحاسبة المتورطين في عمليات فساد الجهاز المصرفي واسترداد الأموال المنهوبة لأنها أموال عامة” يشدد كرار.

ويضيف كرار في حديثه لـ ‘موقع الأضواء’ أنه “إذا توفرت الثقة في الجهاز المصرفي وتعافي من هذه المشكلات، سينتج [الجهاز المصرفي] نظاما اقتصاديا يمكن أن يسهم في الميزان التجاري وتقليل العجز فيه. هكذا يمكن توفر العملات الصعبة وتكون المعاملات عبر الجهاز المصرفي.”

“هذه المعالجات ينبغي أن تكون عاجلة وسريعة وضرورية وهي ليست صعبة ولكن بداية المشوار فيها يجب أن يكون التخلص من الدولة العميقة والفاسدين في الجهاز المصرفي”، يفسر كرار.

معالجة الفساد يفتح الباب أمام معالجة السياسات المصرفية بصفة عامة وتوجيهها نحو مشاريع التنمية.

التمنية والثقة

يقول كرار لـ ‘موقع الأضواء’ إن لب المشكلات في السياسات المصرفية في البلاد هو عدم تركيز على دعم المشاريع الإنتاجية، إذ أنها تعتمد نظام التمويل التجاري قصير الأمد وتمويل التجارة والخدمات للجهاز المصرفي، وهذا النوع من التمويل غير جاذب للاستثمارات وغير مفيد للاقتصاد بسبب تركيزه على جوانب التجارة وإهمال الجوانب الإنتاجية.

“نجد أن من بين الإشكالات في الجهاز المصرفي صيغ التمويل والتي لا تولد إلا الفقر والديون المتعثرة، باعتبار أنها فئة متعسفة جداً وضماناتها عالية جداً ولا تسمح للفئات العادية من أصحاب المشاريع الصغيرة التي تحتاج إلى تمويل بدون ضمانات كبيرة.”

تقول المواطنة إكرام عبد الماجد: “نحن كشباب لا يمكننا الحصول على تمويل كافي لمشروعات تنموية لأن البنوك تمنح تمويلاً صغير وأصغر وفق استطاعتها وليس وفق متطلبات المشاريع ودراسات الجدوى التي يقدمها أصحاب المشاريع”.

ويقول كرار، يجب وضع معالجات من أجل أن يسهم القطاع المصرفي في الدعم الاقتصادي مثل القطاعات الأخرى، سيما وأن السودان من البلدان التي خرجت من الحروب متأخراً لذا لابد من تنمية خاصة بالمناطق المهمشة والأقل نموا.

«نحن كشباب لا يمكننا الحصول على تمويل كافي لمشروعات تنموية.»

— إكرام عبد الماجد، مواطنة سودانية من الخرطوم

على الجهاز المصرفي أن يسهم في مشاريع التنمية خاصة في الأقاليم البعيدة، باعتبار أن التنمية لها مردود اقتصادي يمكن أن يسهم في تنمية هذه المناطق، حسب كرار. من جانب آخر، سيؤدي ذلك كذلك إلى عودة الثقة في الجهاز المصرفي بانسياب تحويلات المغتربين وكذلك الاستثمارات من الخارج لدعم الاقتصاد السوداني. يمكن على البنوك حينها الاستفادة في تحسين الميزان التجاري والاستفادة أيضا في الواردات.

ويدعو كرار إلى ضرورة إعادة النظر في السياسات المالية والمصرفية وتمويل المشاريع الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة بصورة أكبر من المشاريع الأخرى، بحيث تكون هذه القطاعات جاذبة للاستثمارات طويلة الأجل.

“يجب أن تجد البنوك المتخصصة دعم أكبر من الدولة وإعادة دور البنك الزراعي القديم والبنك الصناعي والعقاري من أجل دعم الاقتصاد السوداني، وكذلك إعادة النظر في الصيغ الإسلامية والعودة إلى النظم التقليدية القديمة.”

يقول الخبير الاقتصادي وأستاذ الاقتصاد في جامعة المغتربين في الخرطوم محمد الناير إن التركيز على مشروعات التنمية، مع هيكلة كاملة سيسهم في حل مشكلات القطاع المصرفي في السودان: “إذا سعت الدولة لهيكلة القطاع المصرفي ودعمه بالكوادر المؤهلة ورفع قدرات التمويل لمشروعات التنمية وزيادة حجم الصادرات وخفض العجز في الميزان التجاري سيسهم ذلك في حل مشكلات القطاع المصرفي في السودان،

ويؤكد د. الناير في حديثه لـ ‘موقع الأضواء’، على أهمية رفع رأس المال المدفوع للبنك بحيث لا تقل عن (5) مليار جنيه، لتمكينها من مواجهة التحديات في المرحلة القادمة.

إلى جانب استعادة الثقة في النظام المصرفي داخليا، يجب كذلك استعادة هذه الثقة دوليا، بيد أن هذه الخطوة تعتمد على رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.

العقوبات الأمريكية والثقة الخارجية

يرى محمد الناير أن العقوبات الأمريكية هي السبب الرئيس وراء مشكلات البنوك والاقتصاد السوداني ككل. “بموجب هذه العقوبات لا نستطيع التعامل مع كل البنوك على مستوى العالم لأن اسم السودان لا يزال موجوداً في قائمة الدول الراعية للإرهاب. هذا يجعل البنوك الخارجية تتخوف من التعامل مع البنوك في السودان لكي لا تتعرض لعقوبات وغرامات من قبل الإدارة الأمريكية.”


«البنوك الخارجية تتخوف من التعامل مع البنوك في السودان.»

— محمد الناير، خبير اقتصادي وأستاذ الاقتصاد في جامعة المغتربين في الخرطوم

تجاوز هذه المشاكل يكون بالسعي لإقناع الإدارة الأمريكية لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. “هناك مساعي من دول شقيقة وصديقة مثل المملكة العربية السعودية لمساندة السودان وطالبت الإدارة الأمريكية برفع اسم السودان وربما تكون هناك صعوبات في هذه الخطوة ولكنها مفتاحية لحل المشكلة” يقول الناير.

وفي بداية العام 2017 تم رفع الحظر الأمريكي جزئيا ً قبل أن يغادر باراك أوباما كرسي الحكم، بينما تم رفع الحظر كلياً في أكتوبر 2017 من قبل إدارة الرئيس دونالد ترامب، إلا انه أبقى على اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب.

برنامج إسعافي لاستعادة الثقة

كان وزير المالية إبراهيم البدوي قد أعلن في سبتمبر من العام 2019، عن أن الحكومة الانتقالية في السودان ستطلق خطة إنقاذ اقتصادي مدتها تسعة أشهر، وقال البدوي للصحافيين: “إن البرنامج الإسعافي سيبدأ أكتوبر، أهم مرتكزات هذا البرنامج هي إعادة هيكلة الجهاز المصرفي”.

وبالعودة إلى مسألة السيولة التي شكلت إحدى معاناة السودانيين لمدة طويلة، ذكر رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك في مقابلة تلفزيونية أن خطة الحكومة قد نجحت في بعض الملفات منها موضوع السيولة.

«في الوقت الحالي لا توجد مشاكل واضحة في السيولة.»

— أحمد بابكر، مواطن سوداني من الخرطوم

هذا ما يؤكده المواطن أحمد بابكر بقوله: “في الوقت الحالي لا توجد مشاكل واضحة في السيولة سوى إن كان عبر الصرافات أو نوافذ البنوك”.

وبالعودة إلى سعر الصرف الذي يمثل الواجهة الأولى لجس نبض القطاع المصرفي، فلقد ارتفع سعر الدولار في السوق السوداء في السودان بصورة غير مسبوقة واصلا إلى 100 جنيه، فيما استمرت صفوف المواطنين الطويلة أمام محطات الوقود والمخابز.

وأرجع وزير المالية إبراهيم البدوي هذا الارتفاع لمضاربة وقتية قام بها فاعلون في السوق، من الممكن أن تضرر مصالحهم من الإصلاحات التي تقوم بها الحكومة، وبالتالي تعتمد هذه الجهات خطوات لإرباك السوق.

ومن بين الخطوات التي تتخذها الحكومة هي العمل على وضع قانون جديد لبنك السودان المركزي، يحافظ على استقلاليته. ما يقف كحاجز أمام هيكلة بنك السودان هو عدم إمكانية تدخل مجلس الوزراء فيه، نظرا لتبعيته لمجلس السيادة، وهو الوضع الذي يتمنى حمودك في وقت وجيز جدا حسمه.

وأكد البدوي إن “البرنامج الانتقالي للحكومة يرتكز على مقاربة دور القطاع المصرفي وبناء مشروع اقتصادي وطني والانتقال من المرحلة المأزومة إلى التنمية الاقتصادية الشاملة وتطوير البنى التحتية والزراعة والبطالة”، مؤكدا على إجراء تحليل عميق لمعالجة الوضع الحالي وأوضاع الاقتصاد الكلي بالبلاد.

«لا بد من أن يكون سعر الصرف لا يتسم بالمغالاة ويدعم الصادرات والصناعة.»

— إبراهيم البدوي، وزير المالية السوداني

هذا وطالب البدوي بحوار لإيجاد أفضل السبل لإصلاح القطاع المصرفي وإذا لزم الأمر دمج بعض المصارف، والتعاون في تطوير البنية الاقتصادية لمشروع عادل يعبر عن رؤية الثورة.

وحذر البدوي من تحرير سعر الصرف، مشيرا إلى احتمال أن تكون له آثار سلبية على قطاع المصارف سيما أنه ربط تحريره بإصلاح القطاع المصرفي بشكل شامل.

“لا بد من أن يكون سعر الصرف لا يتسم بالمغالاة ويدعم الصادرات والصناعة”، قال بدوي، مضيفا أن الإصلاح يتطلب سياسة صناعية تتعرف على المخاطر وتتجاوز السياسات الخاطئة، حتى لا تحدث تشوهات جديدة في الاقتصاد.

وأكد وزير المالية حرص الحكومة الانتقالية السودانية على دعم القطاع المصرفي، واستعادة الثقة في النظام المصرفي وإعادة النظر في وضع البنوك خاصة فيما يتعلق بالاستدانة بالعملة الأجنبية.

حوار الصحفي عثمان ميرغني مع رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وزير المالية إبراهيم البدوي ووزير الصناعة، مدني عباس مدني حول الوضع السياسي الراهن في السودان.
© تلفزيون السودان | 21 يناير، 2020