حزمت “ريم صدّيق” حقيبة صغيرة، واصطحبت طفليها، وتوجهت صوب موقف السيارات؛ فارة إلى ولاية النيل الأبيض، 300 كيلومتر جنوب العاصمة الخرطوم، عندما اندلع القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15نيسان أبريل 2023.

تقول ريم، 37 عاماً: “إنها المرة الأولى التي تخرج فيها من الخرطوم، منذ أن كانت طفلة”، وتضيف بعد أن أخذت نفساً عميقاً: “لا أعلم حينها ما هو مصيري وأبنائي الصغار، لكني قصدت منطقة جزيرة أبا المحاذية لنهر النيل، لا أعرف فيها شخصاً سوى منزل أسرة زميل زوجي في العمل”، وتتابع ريم: “بعد ساعات طويلة وأنا أتأمل الفضاء المفتوح، والمساحات الواسعة، وأقارن بينها وحياتي التي انقلبت فجأة دون مقدمات، وصلت إلى جزيرة أبا، وهناك استقبلتني أسرة زميل زوجي بطريقة خففت عني عناء التكفير في المجهول”.

بكل ترحاب

مثل ريم هناك آلاف الأسر التي فرت من جحيم الحرب في الخرطوم، إلى ولايات ومناطق مختلفة من بينها ولاية النيل الأبيض، وسط السودان، الكثير من الأسر التي نزحت إلى الولاية لا توجد لديها امتدادات أسرية، ولا تربطهم علاقات شخصية مسبقة، فقط دفعت بهم ظروف الحرب، لكنهم لم يعانوا في التواصل مع المجتمعات الجديدة، التي احتضنتهم بكل ترحاب وتقاسمت معهم المأوى والمأكل، وهو ما تؤكده ريم صديق فالأسرة التي استقبلتها منحتها الإحساس بأنها جزء من البيت، كما تقول، وتضيف: “خجلوني بمعاملتهم الكريمة؛ كانوا يميزوني إيجابياً عن أفراد المنزل، ولم أشعر مطلقاً أني غريبة، تأقلمت مع الواقع وسط بيتهم الكبير”.

وتعتبر ولاية النيل الأبيض واحدة من الولايات التي استقبلت أعداداً كبيرة من النازحين الفارين من حدة الصراع في الخرطوم، بعض الأسر استضافها أقاربها، وأخرى استقرت في مراكز خُصصت للإيواء كالمدارس، وسكن الطلاب.

يقول محمد إدريس مفوَض العون الإنساني بولاية النيل الأبيض: “إن عدد النازحين في تزايد يومي فالإحصائيات المتوفرة تشير إلى وجود 367 مركز إيواء في الولاية، تضم أكثر من 14 ألف أسرة، قوامها 85 ألف فرد”، ويشير إدريس إلى إن عدد الأسر المستضافة داخل الأحياء السكنية تجاوزت 63 ألف أسرة مكونة من 421 ألف فرد.

احتواء وإيواء

لم يكن أمر مغادرة مرتع الصبا والنشأة سهلاً بالنسبة لمحمد عمر، 34 عاماً، لكنه كان مجبراً كالآخرين أن يغادر منزله في حي جبرة، جنوبي الخرطوم، يقول محمد: “لأول مرة أبكي بحرقة داخل غرفتي الخاصة قبل أن أغادرها، لا يعلمون ماذا يعني لي بيتنا، هنا كل حياتي، لم أتخيّل يوماً أن أخرج منه بهذه الطريقة العصيبة”.

ترك الشاب الثلاثيني كل أحلامه ومستقبله وراءه، وجاء إلى ولاية النيل الأبيض، فقد كان يملك متجراً لبيع أجهزة وملحقات الهاتف النقّال، لكنه تعرض للنهب من قبل المسلحين في الخرطوم، “بددوا سنوات من عمري قضيتها لتكوين هذا المتجر”، يقول محمد.

خلفية محمد التجارية ساعدته في التغلب على الظروف الجديدة؛ حيث تحدث إلى جاره عثمان جديد؛ باحثاً عن عمل في مدينة رَبَكْ، الذي يملك متاجر لبيع السلع في المدينة، فما كان منه إلا أن منحه بضاعة بالدين ودله على موقع مميز في السوق ليبدأ العمل”، موقف يعبر عنه محمد بلغة مختلفة: “أدهشتني المعاملة الطيبة من الرجل الذي احتواني، وظل يقدم لي الكثير من النصائح في السوق، وأنا الآن أعمل لكسب لقمة العيش لي ولأسرتي الصغيرة”.

يبدي عثمان جديد نوعاً من التحفظ على الحديث عن ما يقدمه للآخرين؛ لأن ذلك يضعه في باب الرياء والمن، كما يقول، ويضيف باقتضاب: “ما قدمته لمحمد وآخرين هو واجبنا الذي يمليه علينا ديننا وقيمنا، ولأننا سودانيون يجب أن نساند بعضنا في مثل هذه الظروف”.

تسهيلات عدة قدمتها السلطات المحلية في ولاية النيل الأبيض للنازحين

خصصت السلطات المحلية سوقاً للنازحين في مدينة كوستي – تصوير: آدم محمد

أما السبعيني محمد عمر فقد وصل مدينة رَبَكْ هرباً من الحرب في الكلاكلة، جنوب الخرطوم، وكان همه العثور على غرفة تأويه هو وأسرته الصغيرة المكونة من 4 أفراد، وجد غرفة ومطبخاً وحماما، يقول محمد: “استأجرت الغرفة، وكنت في حيرة من أمري؛ لتوفير فرش فما كان من صاحب المنزل إلا أن حمل سريرين، وكنبة جلوس، وبعض المستلزمات، ومنحني إياها”.

لفتة تركت الكثير من الأثر في نفس محمد الذي عبّر عنها قائلاً: “منحتني الإحساس أن السودان بخير، وأن أهل الولايات ما يزالون يحتفظون بالمزايا الطيبة، والسمات الحسنة في دواخلهم”.

دعم لا محدود

ثمة مناشط أخرى يتم تقديمها للنازحين من الولايات الأخرى سيما الخرطوم، ففي مدرسة “قوقيلا” شمال مدينة رَبَكْ، أقامت منظمات خيرية احتفالاً للأسر النازحة بالمدرسة تخللته رقصات شعبية، وكان للأطفال وكبار السن نصيب من الفرحة، من بينهم حسن عثمان، في الستينيات من عمره، الذي كان يرقص على أنغام موسيقية عبر مكبر الصوت الذي نصبه منظمو الحفل، يقول حسن: “لا سبيل أمامنا سوى الرقص اليوم؛ لتقليل شحنة الآلام التي نحملها”.

أفرغت السلطات بعض المدارس لإيواء النازحين في النيل الأبيض

مدرسة لإيواء النازحين في ولاية النيل الأبيض – تصوير: آدم محمد

ويؤكد محمد إدريس مفوض العون الإنساني، أنهم حريصون على تقديم الدعم النفسي والترفيهي للنازحين بالولاية، ويضيف: “شاركنا في احتفال لختان 50 طفلاً من أبناء النازحين، في مراكز الإيواء، رقصنا معهم لنمنحهم الإحساس بأننا معهم، ولا يجب أن يشعروا بأن فرحتهم منقوصة”.

لا يتوقف دعم ومساعدة النازحين عند هذا الحد، ففي أحد المراكز الطبية، بمدينة رَبَكْ، خُصصت غرفة للنازحين؛ لتلقي العلاج المجاني، كمقابلة الطبيب للمعاينة والتشخيص، وإجراء الفحوصات. كما تنشط على مستوى ولاية النيل الأبيض شبكة العيادات المجانية للنازحين، للقيام بعمل كبير في الجانب الصحي، يقول الدكتور عامر الفاضل منسق الشبكة: “إن فكرة الشبكة كعيادة مجانية بدأت في مركز التأمين الصحي بمنطقة تَنْدَلْتِي، كشراكة شعبية طوعية، كانت أول استجابة لعلاج النازحين في كل السودان لكونها بدأت في 2 آيار مايو 2023، بعد أقل من شهر على اندلاع الحرب، ولم تكتفِ الشبكة بتقديم العلاج الطبي ولكنها أنشأت مركزاً للعلاج والدعم النفسي للأطفال الفارين من مناطق الحرب، استفاد منه أكثر من 4 آلاف طفل”.

وتمثل الشبكة أكبر عيادة مجانية لمساعدة الفارين من الحرب، بحسب عامر الذي يقول: “نحن الآن أكبر عيادة مجانية في الولاية، استفاد منها أكثر من 12 ألف نازح، ولدينا في كوستي 72 أخصائياً واستشارياً، تتم مقابلتهم عن طريق الشبكة، التي توفر كل الخدمات مجانية من مقابلة الطبيب والفحوصات المعملية الروتينية، فضلاً عن تخفيض في الفحوصات المتقدمة والعمليات الجراحية تصل نسبته إلى 50%، بالتعاون مع ديوان الزكاة الذي يتكفل أحياناً بدفع التكاليف.

تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.