‎⁨قفل الطرقات بالمتاريس يوم فض الاعتصام⁩.
(cc) موقع الأضواء | محمد إبراهيم | 3 يونيو 2019


أدّى الفض الدموي لميدان الاعتصام في الخرطوم في الثالث من يونيو إلى العديد من القتلى والجرحى، ويبقى العديد من المعتصمين مفقودون لحد الآن. من أولئك الذين نجوا، يعاني الكثيرون ممّا أسماه الدكتور علي بلدو “متلازمة ميدان الاعتصام”.


(م.ع.) شاب سوداني يبلغ من العمر 24 عاماً، قرر أن يتعاطى حبة مخدرة لكي لا يتراجع عن قراره، ومن ثم يصعد على سطح بناية عالية في شارع المطار بالخرطوم، والتخلص من حياته، بعد الأهوال التي شاهدها في مجزرة فض الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة.

يشعر (م.ع.) بالذنب لنجاته واستشهاد أصدقائه الذين قتلوا حرقاً، رمياً بالرصاص وضربات بالهراوات، أمام نظره، وسماعه لصراخ النساء وهن يتعرضن للاغتصاب.

الصدمات النفسية الحادة تشعر (م.ع.) بتأنيب الضمير وعدم الرغبة في العيش. بات (م.ع.) يتهم الشعب السوداني ببيع دماء الشهداء التي سالت في اعتصام القيادة العامة، عبر توصله لاتفاق مع المجلس العسكري.

روى السيناريو أعلاه لـ ‘موقع الأضواء’ الطبيب محمد صلاح الفحل، نائب طب نفسي وعضو مؤسس لمبادرة ‘مد يدك’، المعنية بتقديم العلاج النفسي للناجين من مجزرة القيادة العامة. بلّغ أحد أصدقاء (م.ع.) مبادرة ‘مد يدك’ بعد أن قام بنجدته، ليتمّ العثور عليه بعد أسبوعين من مجزرة القيادة العامة، متشرداً في إحدى أحياء مدينة بحري.

الأحداث والتطورات

اندلعت في السودان ثورة شعبية كبرى ضد حكم الرئيس عمر البشير، في منتصف ديسمبر من العام 2018، ووصلت ذروتها في يوم 6 أبريل 2019، وتكللت باعتصام المعارضة أمام القيادة العامة للقوات المسلحة. سقط البشير يوم 11 أبريل، إلا أن المعارضة لم تفض الاعتصام وتمسكت به حتى تتحقق كامل مطالب الثورة، ودعت المجلس العسكري الانتقالي لتسليم السلطة لحكومة مدنية.

في صباح 3 يونيو، هاجم الآلاف من الجنود، يحملون الأسلحة النارية والهراوات، ميدان الاعتصام، وفضوا الاعتصام بالقوة المميتة. أشعل الجنود النيران في الخيام، وأتلفوا المعدات، وضربوا الثوار المعتصمين.

حسب لجنة أطباء السودان المركزية تجاوز عدد الشهداء الـ 120، حيث تم رمي 40 من الثوار في مياه نهر النيل وربط أياديهم وأرجلهم بالحجارة. هذا بالإضافة إلى تعرض أكثر من 70 للاغتصاب أغلبهم من النساء، وتجاوز عدد الجرحى المئات. وقامت السلطات بعد المجزرة بقطع الإنترنت عن كامل السودان بهدف خلق تعتيم إعلامي، وهو ما نجحت فيه إلى حدّ ما في ظل التضارب بين العدد الحقيقي للقتلى والجرحى وما جرى بالضبط خلال الأحداث الدامية للمجزرة.

بعد ساعات من مجزرة القيادة العامة الدموية، دعا تجمع المهنيين السودانيين منظم الثورة في السودان، إلى إضراب سياسي وعصيان مدني شامل. تعالت حدة الغضب ضد المجلس العسكري، ووضع الثوار المتاريس والحجارة في جميع طرقات وشوارع المدن السودانية.

نجا الآلاف من الثوار من مجزرة القيادة العامة، إلا أنهم أصيبوا باضطرابات نفسية حادة، حسب خبراء نفسيين تحدثوا مع ‘موقع الأضواء’.

‘مد يدك’

تحدث الدكتور محمد صلاح الفحل، نائب طب نفسي وعضو مؤسس لمبادرة ‘مد يدك’ المتخصصة في الدعم النفسي للناجين من مجزرة القيادة العامة لـ’موقع الأضواء’ عن جهود المبادرة في تقديم الخدمات الطبية للناجين. يذكر أن المبادرة تحت إشراف لجنة أطباء السودان المركزية المندرجة تحت لواء تجمع المهنيين السودانيين، منظم الاحتجاجات في السودان.

أتت المبادرة نتيجة لمجزرة القيادة العامة، حيث رأت لجنة أطباء السودان ضرورة تقديم الدعم النفسي للضحايا. اتصّل الناشطون ومناصرو لجان المقاومة في الأحياء بلجنة أطباء السودان للتبليغ عن أشخاص ناجين من المجزرة مضطربين في سلوكياتهم، ودعوا اللجنة لضرورة التدخل.

لمن نتكلم عن الصحة النفسية ، نحن بنتكلم عن "حالة كاملة بكون فيها الفرد قادر انو يتعرف على قدراتو ، قادر انو يتعامل مع…

Gepostet von ‎مِدْ يدك Reach Out‎ am Sonntag, 28. Juli 2019

كانت ‘مد يدك’ في بدايتها تعمل في ظروف غاية في التعقيد، بعد فض اعتصام، لأن المبادرة واجهت عددا من التحديات. التساؤل الأول كان حول كيفية الوصول للضحايا. بالإضافة إلى ذلك، تفتقر الخرطوم إلى مستشفيات مدنية كافية تقدم العلاج النفسي للضحايا، ماعدا مستشفى طه بعشر للطب النفسي في مدينة بحري، ومستشفى التجاني الماحي بمدينة أم درمان. في نفس الوقت، كان الأطباء في المبادرة يتجنبون أخذ الضحايا لهذه المستشفيات خوفاً من الملاحقات الأمنية لهم.

شكلت المبادرة ثلاث فرق ميدانية تم توزيعها على مدن العاصمة السودانية الثلاث (الخرطوم، أم درمان، بحري). تضم هذه الفرق أطباء ومعالجين نفسيين. تتلقى المبادرة تبليغا من لجان المقاومة ومن ثم يتحرك الفريق في المدينة المعنية لتقديم الخدمة الطبية للضحية، سواء كانت دوائية أو معالجة نفسية، عن طريق جلسات في منازل آمنة بعيدة عن الرقابة الأمنية. باتت صفحة المبادرة في الفيسبوك هي المصدر الأول للتبليغ عن الحالات والتنسيق مع الضحايا بحسب مقر سكن الحالة. تنسّق المبادرة كذلك مع أنشطة لجان المقاومة لبث الوعي النفسي.

أنشأت المبادرة ثلاث مراكز للمتابعة مع الناجين: مركز ‘الفنار’ بالقرب من حدائق القرشي بالخرطوم، يفتح كل يوم سبت وأربعاء؛ مركز في أم درمان يفتح كل يوم أحد، بالتنسيق مع مركز جامعة الأحفاد للإرشاد النفسي؛ وأخيرا، مركز جديد في مدينة بحري في ‘مركز نجات الخيري’، يفتح كل سبت وثلاثاء.

قطع الفحل بأن الناجيين يعانون من الاضطراب الحاد، وأن ما حدث في ميدان الاعتصام في الثالث من يونيو 2019، كان عبارة عن وباء عم كل السودان. “الحالة فوق جهود الحكومة دعك عن لجنة [مبادرة ‘مد يدك’] تم تشكيلها في ساعات محدودة منذ مجزرة القيادة العامة”، يقول الفحل.

هذا وكشف الفحل عن محاولات لإسكات الناجين قائلا: “تلقينا معلومات حساسة بعد فض الاعتصام تفيد بأن هنالك جهات أمنية تزور الناجين من المجزرة، الذين يتلقون العلاج في المستشفيات الحكومية، وتعمل الجهات على إغرائهم ماليا مقابل عدم التحدث بتعرضهم للإصابة في مقر الاعتصام”.

‘مفقود’

‘مفقود’ هي حملة تبنّاها تجمع المهنيين السودانيين تهدف على البحث عن الناجيين من مجزرة القيادة، الذين لم يتم العثور عليهم. تضم الحملة كل من التحالف الديمقراطي للمحاميين، ولجنة أطباء السودان المركزية،شبكة الصحفيين السودانيين، وتجمع التشكيليين، وفيها مكتب الميدان لتجمع المهنيين. تهدف الحملة إلى تقديم الدعم الطبي للمفقودين، والدعم القانوني لأسر المفقودين عبر فتح بلاغات فقدان في أقسام الشرطة ومتابعة البلاغات.

كشف دكتور مصعب عجب، من حملة ‘مفقود’، لـ ‘موقع الأضواء’ عن العثور على 48 من المفقودين من الجنسين، أغلبهم في العاصمة الخرطوم، وهنالك خمسة منهم تم العثور عليهم كجثث. حسب آخر بيان لمبادرة ‘مفقود’، فإن“عدد المفقودين بلغ 19 مفقود و تم توزيعهم على النحو التالي: 1. مفقودي مجزرة القيادة العامة، 2. مفقودي ما سبق وما تلى من أحداث مجزرة القيادة العامة (مظاهرات ومليونيات)”.

وأوضح عجب أنه بعد العثور على أحد المفقودين، تقوم ‘مفقود’ بتقديم الخدمات الطبية اللازمة في الجانب الجسدي، والنفسي عبر مبادرة ’مد يدك’، ومن ثم تقديم الخدمات القانونية عبر التحالف الديمقراطي للمحامين.

أكدّ عجب على أن قوات الشرطة غير متعاونة بفعالية مع حملة ‘مفقود’، قائلا إن “المبادرة تركز على المجهود الشعبي أكثر ولا سيما وأن قوات الشرطة غير متعاونة بشكل كافي في هذا الملف”.

متلازمة فض الاعتصام

أطلق البروفيسور واستشاري الطب النفسي والعصبي وأستاذ الصحة النفسية علي بلدو، على ما حدث بعد مجزرة القيادة العامة بمتلازمة فض الاعتصام، وأبان في حديثة لـ ‘موقع الأضواء’ أن “المتلازمة هي واحدة من اضطرابات ما بعد الصدمة أو ما بعد الشدة والناجمة عن هول ما حدث في يوم 3 يونيو”.

“المتلازمة هي واحدة من اضطرابات ما بعد الصدمة أو ما بعد الشدة والناجمة عن هول ما حدث في يوم 3 يونيو”

— علي بلدو، بروفيسور واستشاري الطب النفسي والعصبي وأستاذ الصحة النفسية

تشمل المتلازمة الشعور بالتوتر، القلق والخوف، وصعوبات في النوم ليلاً، الأحلام الليلية المفزعة، البكاء الشديد، الصراخ، الرغبة في الجري والهروب من المنزل، جنبا إلى جنب مع الأعراض الجسدية غير المبررة كآلام البطن الحادة، الصداع، الغثيان، القيء والاستفراغ، التشنجات والإغماءات الحادة، الهزال وفقدان الوزن، واضطراب الذاكرة والتشويش.

وليس هذا فحسب بل يتعدى الأمر ذلك، حسب بلدو، إلى وجود مضاعفات نفسية خطيرة كالشعور بلوم الذات، عدم القدرة على تقديم المساعدة للآخرين، الدونية والوجل، وبالتالي الدخول في حالة اكتئابية حادة نتيجة للشعور بالعجز، خصوصاً اللواتي تعرضن للتحرش الجنسي أو الاغتصاب.

كل هذا يؤدي إلى الرغبة في ترك الحياة أو الشروع في الانتحار أو الانتحار فعلاً، كما ورد في بعض الحالات . أكد عضو لجنة ميدان الاعتصام عن تجمع المهنيين السودانيين علي فارساب لـ ‘موقع الأضواء’ إنه كان موجوداً أثناء فض الاعتصام، وشاهد الفظائع التي ارتكبت بحق المواطنات والمواطنين العزل.

“الذين أصيبوا بمتلازمة فض الاعتصام كثر، والقليل منهم من تلقى الدعم النفسي”، يقول فارساب، مشددا على أن “قضايا الفتيات التي تعرضن للاغتصاب ذات حساسية عالية لم يتم نشر تفاصيلها لحساسية القضية”. يتفق الدكتور محمد صلاح الفحل، حيث قطع بأن “أكثر الحالات التي تشرع في عملية الانتحار هم اللواتي تعرضن للاغتصاب”.

معالجات عاجلة

“لا ننسى أن الشعب السوداني كله أصبح أصيب بالصدمة مما سمعه أو شاهده. بالتالي [الشعب كله] يندرج تحت هذه المتلازمة، حيث يمكن أن نقول أن كل سوداني وسودانية غيور وثائر أصابته هذه المتلازمة”

— علي بلدو، بروفيسور واستشاري الطب النفسي والعصبي وأستاذ الصحة النفسية

اعتبر بلدو أن المعالجات لا تفيد كثيراً، ما لم يتم تقديم الجناة الذين تسببوا في المجزرة إلى محاكمة عادلة، حيث أن نيل الحقوق ومشاهدة العدالة تتنزل يعتبر نوعاً أساسياً من أنواع التعافي.

“تمنعنا العدالة من من الولوج في عوالم الانتقام والرغبة في العنف والعنف المضاد، وتكوين مجموعات خاصة لنيل الحقوق عن طريق القوة وفرض قانون الغاب، [عبر] العمل المسلح أو حتى التمرد العسكري”، يفسر بلدو.

ويختتم البروفيسور المعروف بلدو ويردف بالقول: “لا ننسى أن الشعب السوداني كله أصبح أصيب بالصدمة مما سمعه أو شاهده. بالتالي [الشعب كله] يندرج تحت هذه المتلازمة، حيث يمكن أن نقول أن كل سوداني وسودانية غيور وثائر أصابته هذه المتلازمة. الدليل على ذلك ردة فعل الشعب بعد المجزرة والتصعيد الحاد الذي نتج منه.”

ولا ينسى بلدو أن يؤكد على ضرورة التعامل مع الناجين من هذه المجزرة باعتبارهم ضحايا لجرائم موجهة ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وتقديم العلاج المجاني لهم داخلياً وخارجياً وتوفير الفرص الكافية لهم للتعافي مما عانوا منه.

يضيف بلدو أنه “من الواجب كذلك أن تكون من أولويات الحكومة الانتقالية فتح الملف ضمن لجنة التحقيق وتقديم الجناة للمحاكمة المستقلة ذات شفافية عالية من أجل تنزيل العدالة”.