عندما تسمعها يتسلل ذاك الصوت إلى مسارب الروح باعثاً فيها الراحة والطمأنينة، تشعرك بأنك في عناق مستمر مع آلة تشكلها الطبيعة، ويساهم الإنسان في تقديمها للإنسان بطريقته الخاصة، وإن كانت دول عدة لديها هذه الآلة، إلا إن لها اعتبارات ودلالات ومناسبات خاصة في السودان، وفي البلد ذاته تتعدد مسمياتها، وتتنوع الطريقة التي تعمل بها وفقاً لطبيعة المكان والتكوين الفكري لذويه.

يقول الباحث في مجال الأنثروبولوجيا الدكتور محمد جمال الدين: “أن كلمة النقارة تعود لليونانية، وهي آلة تاريخية قديمة تعنى بالحرب في المقام الأول، ولا توجد هذه الكلمة في اللغات السودانية، ولكنها متواجدة بكثرة في دول كتركيا، والهند، وباكستان، وفي الكثير من الدول الأفريقية، وتعرف (بكنار) في اللغة الأمهرية”.

وفي السودان توجد النقارة ذات الثلاثة الطبول التي كانت حاضرة في السودان قديماً وحديثا، وهناك مجموعات إثنية تستخدمها مثل قبائل غرب السودان، وكردفان، وشمال السودان ما تعرف بالـ (النحاس) ولها علاقة بالهوية والدولة والحرب والسلام.

إيقاع أفريقي

‎بإيقاعها الأفريقي المتميز لا تعد النقارة مجرد آلة إيقاعية، بل مجموعة من المشاعر التي تنساب مع رتم الغناء والرقص الذي يصف ثقافات المجتمعات السودانية باجتماع وجدانها في قرع هذه الآلة ذات الأسماء المختلفة في الداخل السوداني، حسب اختلافات اللغات حيث تسمى بالنحاس في شرق السودان، وبالنقارة في معظم المناطق الأخرى، وتعرف في عدد من الدول بالطبل.

تعد النقارة نموذجاً ثقافياً ذات أبعاد اجتماعية مهمة لدى السودانيين؛ فحينما تقرع تبعث روح الحماس الجماعي، مؤازرة، وتكاتفاً، ومشاركة، وهو ما دفع الباحث في التراث الشعبي السوداني أمير النور للقول بأن “النقارة تعد أحد القواسم المشتركة بين المجموعات الثقافية في البلاد، لاسيما أقاليم دارفور، وكردفان، والنيل الأزرق”.

والنقارة بطبيعتها امتداد للطبل، لكنها اكتسبت خصوصيتها من كونها مأخوذة من الطبل الأفريقي الأصيل، وهو آلة استخدمت في الحرب أولاً ثم باتت إرثاً متوارثاً في سياق فرائحي ومناسباتي جامع، إذ لا يُكتفى بقرعها دون رقص وتفاعل من الحاضرين.

فرقة القرية “Pigeons du Sable” السودانية في المغرب – تصوير: Jamie McCaffrey

ورث الأجداد هذه الآلة منذ قديم الأزل من طبيعة أراضيهم الأفريقية التي تمتاز بالغابات الكثيفة، واستخدموها كأداة اتصال وإنذار قبل أن تكون نمطاً موسيقياً، فالطبل لغة خاصة تعبر به المجتمعات فيما بينها؛ فهي تسمع، وتجيب، ويستطيعون عبرها رواية القصص، والتمثيل، ويعتمدون عليها اعتماداً كبيراً في نمط حياتهم اليومية فرحاً وحزناً، سلماً وحرباً، وفي بعض الطقوس الدينية، ولأهميتها في نشر الثقافة، وتوطيد العلاقات الاجتماعية فهي تنتقل وتورث بصورة عفوية عن طريق الممارسة والمشاركة. هكذا تم نقلها من الأجداد إلى الآباء ثم الأبناء كما قال الشاب الصافي أبكر وهو قارع لآلة النقارة في غرب السودان.

احترف الصافي الضرب على النقارة منذ الصغر، وشارك بها في مهرجانات محلية وإقليمية، وفاز بالعديد من الجوائز كدوري الناشئة بسنار في العام 2013، والدورات المدرسية القومية، ومهرجان بشيش وغيرها.

ارتباط بالجغرافيا

تبقى النقارة آلة ذات ارتباط وجداني كونها مصنوعة من طبيعة البلد، وهنا يحكي الصافي عن النقارة وصناعتها قائلاً: “تصنع النقارة من جذوع الأشجار القوية كالزان، والحميض، وأبو ليله أو ما تعرف بالتبلدي، وغيرها من الأشجار التي تمتاز بالقوة، وأحياناً من النحاس كما في شمال السوان وبعض مناطق الوسط، والفخار كما في غرب ووسط السودان، ولكن مع التغيرات الكبيرة التي شهدها السودان تاريخياً أصبحت تصنع من المعادن الأخرى، فبعض المناطق التي أنهكتها الحرب الأهلية في السودان يصنعون النقارة من مخلفات القذائف كولاية النيل الأزرق، ومناطق جبال النوبة على الحدود الجنوبية مع دولة جنوب السودان”.

يواصل الصافي سرد الخطوات التي بموجبها تصبح النقارة جاهزة للاستخدام، قائلاً: “تجوّف هذه الأخشاب أو المعادن أو الفخار ومن ثم تغلّف بجلود الحيوانات كالأبقار والماعز والتمساح والتيتل الأفريقي أو ما يسمى بالوعل النوبي”.

وعن شكل النقارة يقول الصافي: “للنقارة أشكال متعددة، وقد تختلف مع اختلاف البقع الجغرافية، ولكل طبلة منها صوتها المختلف الذي يتآلف ويتمازج مع بعضه البعض؛ ليعطي ذلك الصوت الذي يعبر عن الطبيعة والهوية، فحينما نسمع الفرنقبية فهي إيقاع  قبيلة الفور، وعندما نسمع القنقن فإننا نتأنس مع أهلنا المساليت  والكرنق الذي يعكس رقصات جبال النوبة، والنحاس الذي ينادي به أهل الشرق، واندنقا ذاك اللحن الآتي من جنوب شرق السودان  الرصيرص، والباردي، والهجوري، والكسوك وغيرهم من الإيقاعات  التي  تمثل تراثاً غنياً  بالتنوع”.

آلة السعادة

تعدد الإيقاعات وتنوعها يعطي انطباعاً كافياً عن السودان الكبير وامتداداته الثقافية التي استنسخت من امتداداته الجغرافية، وهو ما انعكس على مجتمعه وثقافته المكتسبة من جغرافيته الممزوجة بالتشاركية وتجسيد القيم الواحدية، والإيقاعات تأكيد على ذلك.

إيقاعات جبال النوبة على الحدود الجنوبية مع دولة جنوب السودان تختلف عن مثيلاتها في مناطق أخرى، حيث يعبرون بها عن الفقد والاكتساب اللذين يدوران حول حلقة هذا الإيقاع المعبر دائماً عن الذات.

الحروب الأهلية تعبر عن عدم تقبل الاختلاف، لهذا فهي تجعلنا نفكر كثيراً في ذواتنا، هذا ما قاله علي كسابة، وهو مغنٍ من النوبة، ويضيف: “قد نفقد أشخاصاً، وأياماً، وذكريات، ولكننا لا نستسلم بل نبحث في حطامها عن أنفسنا؛ لنبث فيها روح الأمل”.

ويستشهد كسابة في حديثه بشباب جبال النوم الذين بحثوا في حطام الحروب وحولوا بعض بقاياها إلى آلات إيقاعيّة موسيقية تسمي بالنقارة، جعلوها آلة يستمدون منها طاقتهم وتسعدهم بعد جولات من الصراع الدامي.

ولآلة النقارة طقوس راقصة ترافقها من منطقة إلى أخرى، ورغم تقاطعاتها إلا إن الكثير من الطقوس تبقى جامعة، ‎لكن المناسبة التي تضرب من أجلها النقارة هي التي تحدد تلك الطقوس، وفقاً لما يقوله الصافي أبكر، ويضيف: “تختلف الطقوس من قبيلة إلى أخرى، حيث يجتمع الكثير في تنظيم واحد في الساحة حيث مكان ضرب النقارة والرقص الذي يرافقها، كالساحات العامة، أو النقع الوادي، أو ميادين كرة القدم، المهم أن يكون المكان واسعا”.

رقصات تقليدية في استاد الزبير في الفاشر، شمال دارفور، أكتوبر 2012 – تصوير: Albert González Farran

يلتف الجميع في شكل دائرة ويتوسطهم النقارون من نساء ورجال، ومعهم المغنون الذين قد يكن نساء فيطلق عليهم الحكامات أو رجالاً ويسمونهم الهداين، وعندما تقرع النقارة يلتف حولها الكبير والصغير القاصي والداني لقوة صوتها وارتباطها الوثيق بوجدان أفرادها، ومن ثم يتشاركون الرقص بشكل عفوي يعبر عن صدق إحساسهم وواحديته.

عادة ما تكون هذه التجمعات الراقصة في المناسبات العامة كحفلات الختان والأعراس، والاحتفال بالأعياد، وتهنئة أبطال المباريات، وغيرهم، حيث يبدأ الرقص وتمتلئ الساحة بالراقصين على ضربات النقارة.

للنقارين مسميات مختلفة فصاحب أكبر طبلة يسمى بالنقاري، والأصغر يسمى بالجَمباكِي، وفي بعض المناطق يسمى صاحب أكبر طبلة بالسواق والذي يليه بالنقار والأخير بالقواد.

وإذا كانت النقارة آلة سودانية جامعة، فهي أيضاً ذات مكنون خاص ومكانة مختلفة لدى الصافي وأمثاله ممن يجيدون ضربها وبأشكال مختلفة، يعبر عن ذلك بقوله: “للنقارة شأن كبير ومشاعر خاصة في نفسي، أعتبرها صديقاً وفياً يلازمني طيلة حياتي، أقول هذا من مخيم نزوحي في تشاد، أقولها وأنا في أمس الحاجة لمثل تلك اللحظات، أتمنى أن يعم الأمن والاستقرار في بلدنا وأن نعود لنعزف ألحان السلام”.

ــ ــــــ

تم إنتاج هذه القصة من قبل الإعلام في التعاون والانتقال (MICT) وأكاديمية شمال أفريقيا للإعلام (NAMA)، بالتعاون مع مركز الأضواء للخدمات الإعلامية والصحافة، وبتمويل من الوزارة الاتحادية الألمانية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ). الآراء الواردة في القصة لا تمثل آراء MICT أو NAMA أو الأضواء أو BMZ.