جدارية للدكتور علي فضل، طبيب سوداني وعضو في اتحاد أطباء السودان، اعتقل وعذب ثم قتل في 21 أبريل 1990.
(cc) موقع الأضواء |علا إلياس


إلى جانب غيرهم من المهنيين، لعب الأطباء دورًا رئيسيًا خلال انتفاضة السودان. من وراء الكواليس، ساعد الأطباء على تحويل ما بدأ كاحتجاجات على أسعار الخبز إلى ثورة عظيمة.


أدت الاحتجاجات الجماهيرية التي اندلعت على المستوى الوطني في ديسمبر 2018 والانقلاب العسكري إلى إنهاء حكم عمر البشير الذي استمر لمدة 30 عامًا وعززت حركة قوية مؤيدة للديمقراطية في السودان، وإن كانت لا تزال في طريقها لتحقيق كامل. ولقد شكّل الأطباء، المحامون، الصحفيين، المهندسون والمعلمون تحالفا سمي تجمع المهنيين السودانيين.

لعب الأطباء بشكل خاص دورًا بارزًا في تشكيل حركة الاحتجاج التي أسقطت البشير – هذا ليس بالشيء الجديد. فمنذ استقلال السودان سنة 1956، واجهت البلاد العديد من الانتفاضات.

في أكتوبر 1964، ثار الشعب السوداني ضد الجنرال إبراهيم عبود، وكانت أول ثورة من نوعها ضد رئيس كان لا يزال في منصبه في تاريخ القارة الأفريقية والشرق الأوسط، حيث كانت الانقلابات المسلحة هي القاعدة.

في أبريل 1985، تمت الإطاحة بحكومة الرئيس جعفر النميري بانقلاب عسكري بعد أكثر من أسبوع من المظاهرات والإضرابات التي تفجرت بسبب زيادة أسعار المواد الغذائية وتزايد السخط على النميري. خلال جميع هذه الثورات الثلاث والاحتجاجات الأخرى، كان الأطباء في الخطوط الأمامية ودفعوا ثمناً باهظاً مقبل تحديهم لهذه الأنظمة.

ثمن التحدي

أصبح الدكتور بابكر عبد الحميد سلامة أيقونة للثورة الأخيرة في السودان. في الأيام الأولى للانتفاضة، في 17 يناير 2019، قُتل الدكتور بابكر برصاص جهاز المخابرات والأمن الوطني بينما كان يحاول علاج المحتجين الجرحى خلال مظاهرة سلمية في الخرطوم. كان الدكتور بابكر في أواخر العشرينيات من عمره وكان يقدم المساعدة الطبية للمتظاهرين الجرحى داخل منزل في حي بري في الخرطوم.

وبسبب شدة بعض الإصابات التي كان يعالجها، قرر مغادرة المنزل والاتصال بأفراد جهاز الأمن والمخابرات وهو رافعا يديه وطلب منهم أن يسمحوا له بنقل المصابين إلى أقرب مستشفى. عندما سأله الضباط عما إذا كان هو الطبيب الذي يعالج المحتجين، أجاب سلامة بالإيجاب.

مباشرة بعد رده، أطلق عليه أفراد جهاز الأمن والمخابرات النار حيث توفي في مستشفى رويال كير الدولي في الساعة 6:30 مساء في نفس اليوم.

ولم يكن الدكتور بابكر الطبيب الوحيد الذي قُتل تحت حكم البشير إذ أن هناك قائمة طويلة من الضحايا. في أعقاب إضراب الأطباء السودانيين عام 1990، اعتقل الدكتور علي فضل، وهو طبيب سوداني كان عضواً في اتحاد أطباء السودان، وعذب ثم قتل على أيدي جهاز الأمن والمخابرات في 21 أبريل 1990. ظهرت على جسده أدلة قوية على إيذاء بدني وإصابة قاتلة في الرأس، ومع ذلك، وفي شهادة الوفاة التي صدرت، ذكر أن الملاريا هي سبب الوفاة، ولم يتم التحقيق في القضية مطلقًا.

تطول قائمة الأطباء الذين قتلوا. فعلى سبيل المثال، قتل الدكتور صلاح مدثر السنهوري البالغ من العمر 34 عاما في 27 سبتمبر 2013، خلال الاحتجاجات السلمية ضد رفع الدعم عن الوقود. كما وقتلت أيضا الدكتورة سارة عبد الباقي التي أصيبت بالرصاص خارج منزل عمها في حي الدرشاب بالخرطوم في 25 سبتمبر 2013؛ وهناك تقارير تفيد بأن محجوب التاج محجوب، وهو طالب في السنة الثانية في كلية الطب بجامعة الرازي، مات “بعد تعرضه للضرب والتعذيب” أثناء احتجازه لدى الشرطة في يناير 2019.

وطوال الثلاثون عامًا من حكم البشير، جعل نظامه النقابات المهنية تصاب بالشلل. فقد حاول الأطباء السودانيون مراراً تشكيل هيئة موحدة لهم وتمكنوا في عام 2010 من تأسيس لجنة أطباء السودان وقاموا بتنظيم إضراب للمطالبة بزيادة الرواتب والمزيد من الموارد للمستشفيات في جميع أنحاء البلاد. وفي عام 2016، نظموا إضرابًا آخر تحت عنوان “من أجلك أيها المواطن”، مطالبين مرة أخرى بمزيد من الدعم للقطاع الطبي في السودان، وقوانين لحماية الأطباء، وتدريب أفضل لأخصائيي الرعاية الصحية وإعادة فتح مستشفى الخرطوم.

في عام 2016، تم تشكيل لجنة أطباء السودان المركزية لكن الحكومة قمعتها على الفور وتم القبض على المؤسسين واحتجازهم في السجن. لكن هذه الإجراءات لم توقف اللجنة عن عملها وبدأ مؤسسوها وأعضائها مباشرة بعد إطلاق سراحهم من السجن، بالاجتماع مرة أخرى، والتخطيط لإضرابات جديدة تهدف إلى تحسين الرعاية الصحية في جميع أنحاء السودان. في عام 2019، أصبحت اللجنة من المكونات الأساسية في تجمع المهنيين السودانيين.

«الوضع في المستشفيات كان فظيعا.»

— منتصر البشير، دكتور

فوضى في قطاع الصحة

يقول الدكتور منتصر البشير، عضو في اللجنة وأحد الأطباء الذي كان يقود الإضرابات: “كان من المتوقع أن يقود الأطباء هذه الثورة لأسباب عديدة. فالوضع في المستشفيات كان فظيعا وكان هناك نقص هائل في الأدوات والأدوية ولم يكن لدينا أسرة في غرف الطوارئ “.

وتؤكد أمنية حمزة، وهي صيدلانية تبلغ من العمر 24 عامًا وتعمل في معهد الصحة العامة بوزارة الصحة الفيدرالية أن “حالة المستشفيات العامة كانت كارثية” وتقول إن “هناك فساد هائل، ونقص كبير في الأدوية الأساسية المنقذة للحياة، وكنا نرى الناس تموت كل يوم في المستشفيات العامة لأننا لم نكن قادرين على توفير دواء لا يتجاوز سعره 2 أو 3 دولارات.”

إلى جانب ذلك، يقول الدكتور البشير إن “هناك نقصا كبيرا في الموظفين، وضغطا كبيرا من المرضى وأقاربهم الذين كانوا يعتقدون أن هذا النقص كان بسبب إهمال الأطباء لواجباتهم أو لأنهم لا يولون عملهم الاهتمام الكافي.” ويوضح أن هذا “لم يكن هذا صحيحًا لأن سبب النقص هو تقصير السلطات وعدم كفاية الإنفاق على الرعاية الصحية.” ويضيف أن” كامل الميزانية كانت تنفق على الميليشيا الرئاسية بدلا من الإنفاق على الصحة”. وتلخص حمزة ذلك بالقول أن “الوضع كان مروعا.”

لجعل الوضع الأليم أسوأ، كان اختيار المديرين الطبيين المسؤولين يتم مباشرة من قبل الحكومة. هذا لم يعن فقط دعم أجندة الحكومة ولكنه عنى أيضًا حماية النظام وأتباعه. فعندما يُقتل أشخاص على أيدي ميليشيات النظام، كان المديرون الطبيين حريصون على إخفاء الأسباب الحقيقية للوفاة.

«كنا نرى الناس تموت كل يوم في المستشفيات العامة لأننا لم نكن قادرين على توفير دواء لا يتجاوز سعره 2 أو 3 دولارات.»

— أمنية حمزة، صيدلانية

إضراب الـ 207 أيام

في 19 يوليو 2019، أعلنت اللجنة انتهاء الإضراب، الذي استمر لمدة 207 أيام، احتجاجًا على قتل الأشخاص الذين نزلوا إلى الشوارع. وانتهى الإضراب بعد توقيع الاتفاق بين المجلس العسكري السوداني وتحالف قوى الحرية والتغيير.

خلال الإضراب، التزم موظفو 32 مستشفى حكومي وعدة مستشفيات خاصة، بالعناية بالحالات المخطرة التي أصيبت أثناء الحوادث وحالات الطوارئ الأخرى، والحالات الموجودة في أقسام العناية المركزة وغسيل الكلى، وأقسام السرطان وحديثي الولادة، لكنهم لم يعالجوا الحالات غير الخطرة.

بعد مقتل الدكتور بابكر، توسع الإضراب، وانسحب الأطباء من المستشفيات العسكرية، متهمين الجيش بعدم حماية المتظاهرين. ومع ذلك، ولدعم المتظاهرين الجرحى والمصابين، وفر المسعفون الخدمات النقالة والعمليات الجراحية والأدوية والخدمات الصحية الأخرى مجانًا.

وعندما تحركت القوات شبه العسكرية لتفريق اعتصام احتجاجي أمام القيادة العامة للجيش في وسط الخرطوم في 3 يونيو، 2019، وقتلت 127 شخصًا، كان الأطباء مرة أخرى موجودون في الخطوط الأمامية وعالجوا المتظاهرين المصابين وكانوا عرضة للنيران. في ذلك اليوم، توفي طبيبان وأصيب الكثيرون.

يوصف الإضراب الذي دام لمدة 207 أيام بأنه أطول إضراب للأطباء في تاريخ السودان وأنه عصيان مدني مستمر استفز النظام البائد ووضع الأطباء على رأس قائمة المستهدفين من قبل الحكومة القديمة.

أطباء في مظاهرة في الخرطوم. (cc) موقع الأضواء | علا إلياس

ثمن باهظ وتوقعات كبيرة

تقول الصيدلانية أمنية حمزة “أنه بالنظر إلى الثمن الباهظ الذي كان علينا دفعه لإنجاز ثورتنا، سنشعر دائمًا أن ما حققناه ليس كافيًا، وأننا نريد المزيد.” وتضيف “أن ما نريده بدون شك ليس أقل من تغيير كبير على جميع المستويات، ولكن بالنسبة لي، لا تزال هناك أولويات تحتاج الحكومة إلى أخذها على محمل الجد. أنا متفائلة بأن لدينا جميعًا نوايا حقيقية لإعادة بناء السودان، وهناك طريق طويل ينتظرنا”.

ويقول الدكتور منتصر البشير: “لدينا توقعات كبيرة لسودان ما بعد الثورة ونحن ننتظر المزيد من الحكومة الحالية ولكن في الوقت نفسه، نعلم أن الحكومة الجديدة ورثت عبئًا ثقيلا من النظام القديم وأن إصلاح هذه الفوضى برمتها، سيحتاج إلى وقت أطول. أعتقد أن رئيس وزرائنا الجديد، السيد حمدوك هو قائد مقتدر.”

أما الدكتور عبد الله أحمد، العضو في اللجنة والبالغ من العمر 24 عامًا فيقول: “ما زلت أنتظر رؤية التغيير الذي وضعت حياتي في خطر من أجله! أنا في انتظار رؤية تغيير ملموس في حياتنا اليومية. ليس لدي شك بأن حكومة ثورتنا هي حكومة قديرة ولكني أعتقد أيضًا أنه ينبغي عليها تسريع عملية التغيير قليلاً.”

“أنا أقول ذلك لأنني، كما جميع السودانيين الآخرين، رأيت الكثير خلال الثورة. هاجمتني الميليشيات أثناء قيامي بعملي. لقد شاهدت العديد من الأعمار الشابة تهدر.” و يضيف الدكتور عبد الله قائلا “كانت طريق هذه الثورة مليئة بالكثير من الدماء، وبالتالي يتوقع المرء النتائج القصوى على جميع المستويات” .

«ما زلت أنتظر رؤية التغيير الذي وضعت حياتي في خطر من أجله!»

— عبد الله أحمد، دكتور

مستقبل الصحة في السودان

تقول حمزة “بعد الثورة وتشكيل الحكومة الانتقالية، انضممت إلى مكتب التخطيط الاستراتيجي للجنة صيادلة السودان المركزية، الذي كنت بالفعل جزءًا منه، ولكن في وظيفة أخرى.”

وقد كلفت هي وزملائها بالتخطيط لإصلاح قطاعي الصحة والأدوية في السودان. عن ذلك تقول أمنية “أنا أمثل اللجنة في فرقة العمل الوطنية التي تعمل على السياسة الصحية الوطنية والخطة الاستراتيجية للفترة الانتقالية. نحن نعمل عليها منذ شهرين.” ووفقًا لحمزة، فإن الهدف هو” تحسين النظام الصحي بأكمله”.

يقول الدكتور منتصر “إنه من السابق لأوانه قياس أي تغييرات الآن،” لكنه راض عن الخطوات المتخذة حتى الآن ويضيف: “إن الوقت قد حان لتغيير نظام الرعاية الصحية القديم عديم الجدوى.” في الوقت نفسه، فإنه بدأ بالتركيز على عمله من جديد، وأنه “يتابع حالة المرضى الذين أصيبوا في أيام الثورة. إنهم الأولوية بالنسبة لي ويجب أن تدفع الحكومة تكاليف علاجهم”.

بتاريخهم الطويل من الكفاح، قدم الأطباء السودانيون، مع آخرين كثر، مثالًا رائعًا للشجاعة والكفاءة المهنية والتضحية من أجل الآخرين. لكن كفاحهم لم ينته بعد. على عاتقهم وعلى عاتق أصحاب المصلحة الآخرين في تجمع المهنيين السودانيين، والديمغرافية الضيقة نسبياً التي يمثلونها، يقع توحيد فصائل المعارضة المختلفة – من الجماعات اليسارية إلى الأحزاب الدينية إلى المتمردين المسلحين- حول جدول أعمال سياسي يدعو إلى حكم مدني وإلى تمكين المرأة ووضع حد للحروب الأهلية في البلاد.